أستميح القارئ عذراً باستعادة ما استشهدت به الأسبوع الماضي من كلام للرئيس الأميركي باراك أوباما قاله العام الماضي. حينها قال بالنص: «عندما تنظر إلى السلوك الإيراني سوف تجد أن للإيرانيين استراتيجية، وليسوا متهورين. يملكون رؤية عالمية. ينظرون إلى مصالحهم، ويستجيبون لعوامل التكلفة والفائدة. هذا لا يعني أن إيران ليست دولة ثيوقراطية (دينية)، وتتبنى كل الأفكار التي أعتبرها بشعة. لكن إيران ليست كوريا الشمالية. إيران دولة كبيرة وقوية، ترى نفسها لاعباً مهماً على المسرح العالمي. لا أظن أنها تملك رغبة انتحارية، بل يمكنها الاستجابة للحوافز» («بلومبرغ»، 27 شباط /فبراير 2014).
هذا ما قاله أوباما مع بداية العام الماضي. هذا العام، وفي حديث مطول آخر مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية، قال كلاماً آخر يتكامل مع ما قاله من قبل. في هذا الحديث تناول السعودية واحتمال امتلاكها برنامجاً نووياً مماثلاً للبرنامج الإيراني. سأعود الى هذا لاحقاً. قبل ذلك أريد الإضاءة على التناقض العميق في ما قاله أوباما العام الماضي.
يؤسس الرئيس بهذا الكلام للنتيجة التي يتوقعها من وراء الاتفاق النووي. عقلانية القيادة الإيرانية، وفق تحليله، ستمكِّنها من رؤية فوائد وحوافز الانفتاح على العالم، واستعادة ما يربو على 150 بليون دولار إلى خزانتها، وإن ليس دفعة واحدة، وتدفق الاستثمارات الخارجية عليها. يتوقع الرئيس أن تكون استجابة القيادة الإيرانية لذلك عقلانية. ستوظف هذا الانفتاح، وتلك الأموال والاستثمارات في تحسين الوضع الاقتصادي في الداخل: رفع مستوى الدخل، الاستثمار في التنمية البشرية من تعليم وتدريب، وضخ الأموال في مشاريع النفط والغاز، وغيرها، مثل تحديث البنية التحتية، وطرق التجارة، والسياحة، والصناعات غير العسكرية.. إلخ. كلام الرئيس منطقي تماماً، وهو ما يجب أن يحدث. لكن المنطق لا يتطابق دائماً مع الواقع. المنطق أكثر بساطة ومباشرة من الواقع. هنا سؤال بسيط: لماذا احتاجت القيادة الإيرانية إلى مقاطعة وعزلة مؤلمة بهذا الحجم لتكتشف بعد أكثر من 30 سنة أن وطأتها قاسية وضارة، وأنه لا بد من التخلص منها؟ ثم لنفترض أن القيادة الإيرانية فعلت كل ما يتوقعه الرئيس. ماذا ستفعل أولاً بفلسفتها السياسية، وهي فلسفة ثيوقراطية تتناقض رأساً مع المنطق الرأسمالي الليبرالي الذي ينطلق منه؟ ثانياً ماذا ستفعل بكل الميليشيات التي تتبناها في العراق وسورية ولبنان؟ وقبل هذا وذاك، ماذا ستفعل بكل الاستثمارات العسكرية والسياسية والمالية التي استثمرتها في مغامراتها في المنطقة منذ 2003؟ ماذا ستفعل بحلفائها خارج إيران: الطبقة السياسية في كل من العراق وسورية، إلى جانب من ارتبط بهم وبها من تجار، وسياسيين، ومقاولين وكتّاب، ورجال دين، ومقاتلين، وقادة عسكريين، وفضائيات، وأحزاب؟ خيط هؤلاء يمتد من طهران حتى بيروت. إذا تخلت إيران عن كل ذلك، ستثبت قيادتها حقاً أنها عقلانية، لكنها عقلانية تتطلب في الأخير التخلي عن الهوية المذهبية، وعن آلية الميليشيا، أو الحرب بالوكالة، كأساس لمشروعها ودورها الإقليمي. المفارقة هنا، أن قبول إيران بهذه النتيجة يرقى إلى مستوى الانقلاب على نظام «الجمهورية الإسلامية» بصيغته الحالية وسياساته، وهو انقلاب يقترب من حافة الانتحار. لكن أوباما يقول إن أهم ما يميز هذه «الإيران» أنها لا تريد الانتحار.
هنا يتبدى التناقض الحاد في كلام الرئيس. ومصدر ذلك عدم التمييز بين إيران المجتمع والتاريخ من ناحية، وبين النظام السياسي الذي يحكم إيران منذ 1979. تغيب في حديث الرئيس عن العقلانية طبيعة النظام السياسي الثيوقراطي ومركزيته، وأن له وطأة وتبعات سياسية واجتماعية مدمرة على العقلانية التي يختزنها مجتمع الإيرانيين وتاريخهم. ويتضح هذا في أمرين: داخلياً في تجاور الفكرة الدينية لولاية الفقيه، التي تمنح المرشد أعلى سلطة في الدولة، وإجراءات «انتخابية دنيوية» تحمل شبهة ديموقراطية، لكنها مقيدة دستورياً بمتطلبات الهوية المذهبية للدولة، مراعاة لفكرة ولاية الفقيه وحاكميتها على الدولة. وتتضح خارجياً في السياسة الإقليمية لإيران التي تنطلق ليس من المصلحة الاقتصادية والسياسية لإيران كدولة ومجتمع، وإنما من مصلحة طبقة رجال الدين الحاكمة. الرؤية الموجهة لهذه الطبقة ولسياساتها إقليمياً هي رؤية دينية – مذهبية. ولأنها رؤية غيبية فهي تجمع بين الطائفة كأيديولوجيا، وليس المواطنة وحرية السوق وحرية الفرد من ناحية، والميليشيا كأداة عسكرية لهذه السياسة. ما هو العقلاني في مثل هذا النظام، وهو يستند محلياً وإقليمياً على تحالفات مذهبية، وامتداداً لذلك يتبنى سياسة داخلية وخارجية تعمق الحمية الطائفية، وتستجدي الانقسامات الأهلية كوسيلة لنشر النفوذ؟ هل من العقلانية أن اسم إيران ارتبط في المنطقة بالطائفية والميليشيات، والحروب الأهلية، والاغتيالات؟
إذا تركنا تنظير الرئيس وجئنا إلى سياسته على الأرض في العراق، نجد أنها سياسة فاشلة، ولن تقود إلا الى المزيد من الفشل والدمار وتقسيم العراق. وهو بسبب حاجته للاتفاق النووي، يتفادى الطبيعة الطائفية للدور الإيراني، وأن هذا الدور، بمركزيته ونفوذه، هو أحد أهم العوامل التي تحول دون قيام حكومة وطنية في العراق. يريد أوباما مواجهة الإرهاب في العراق، لكنه لا يرى إلا «داعش». لا يمكن اتهام الرئيس بالغباء أو السذاجة هنا، لكن يمكن اتهامه بميكيافيلية مدمرة، وإلا فذكاؤه السياسي وموقعه يسمحان له بإدراك أن الإرهاب بعد الغزو الأميركي للعراق لم يعد ظاهرة مستقلة بذاتها، وإنما أصبح مرتبطاً عضوياً بالطائفية، وأن هذه الطائفية أصبحت قوة سياسية فاعلة على الأرض ترتبط بها مصالح دول، وأحزاب، ومؤسسات وميليشيات، وبالتالي فإن اختزالها في هذا الفصيل أو ذاك هو سبيل للفشل. في السياق نفسه، يتفادى أوباما حقيقة أن الحكومة العراقية هي حكومة طائفية، في عهد المالكي بشكل فج ومباشر، وفي عهد حيدر العبادي بشكل موارب ومستتر. والدليل أن حكومة العبادي تعتبر الهوية السنية لسكان الرمادي (وكل العراق) مصدر تهديد لأمنها، ولذلك تشترط لدخولهم العاصمة بغداد حصول كل واحد منهم على كفيل، ما يعني نزع المواطنة عنه بدواع مذهبية. الذنب الوحيد لهؤلاء أنهم سنّة هربوا من مدينتهم بعد سقوطها في يد «داعش» السنية، ويريدون اللجوء إلى العاصمة. واستكمالاً لمنطق مقاربته، يفصل أوباما حال العراق عن الحال في سورية، على رغم كل ما يربط بينهما من «داعش»، وبقية الميليشيات، إلى الدور الإيراني الواحد في أدائه وأهدافه في كل منهما. كل ذلك يؤكد واحداً من اثنين: إما أن أوباما غير آبه بما يحصل من دمار، وهذا واضح جداً في موقفه من سورية، وإما أنه لا يملك خطة ولا استراتيجية، وأن كل ما يطمح إليه في ما تبقى من فترته الرئاسية هو منع الوضع في سورية والعراق من عرقلة التوصل إلى اتفاق مع إيران.
يريد أوباما إضعاف «داعش» وصولاً إلى تدميره. لنفترض أن هذا تحقق. ماذا بعد ذلك؟ ماذا عن الميليشيات الأخرى، سنية وشيعية؟ كان هدف من جاؤوا قبل أوباما إضعاف «القاعدة» وصولاً إلى تدميره، وانتهى الأمر ببقاء «القاعدة» وتوالد ميليشيات أعدادها الآن أضعاف عدد الدول، وتنتشر في أغلب أرجاء العالم العربي. يصر أوباما على سياسة فاشلة مثل هذه، لأنه يريد أن يصنع فرقاً في تاريخ الرئاسة الأميركية، وسبيله الوحيد لتحقيق ذلك اتفاق نووي مع إيران!
في هذا السياق يأتي حديثه عن السعودية ودول الخليج، إذ يؤكد أن أياً من هذه الدول لم يطرح في قمة كامب ديفيد الأخيرة إمكان امتلاكها لبرنامج نووي، وأنها -وفق قوله- ليست في حاجة لذلك، فـ «الحماية التي توفرها الشراكة معنا أقوى بكثير مما يمكن أن يوفره برنامج نووي». ثم يوجه تحذيراً مبطنا بقوله: «إن سعي هذه الدول لامتلاك برنامج نووي سري سيؤدي إلى توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة» (مجلة «أتلانتيك»، 21 أيار/ مايو 2015). السؤال: ما الذي يمنع الجمع بين علاقة شراكة قوية مع الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه امتلاك برنامج نووي ضمن الحدود التقنية التي يستند إليها الاتفاق مع إيران؟ ثم ما الذي يضمن أن رئيساً أميركياً في المستقبل لن يأخذ التغير الذي أحدثه أوباما في السياسة الأميركية خطوة أخرى في اتجاه ضرورة قبول إيران دولةً نووية، وأنه يمكن احتواء إيران النووية مثلما حصل مع الاتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة؟ الأرجح أن هذا ما سيحصل إذا تغير النظام الإيراني داخلياً بما يتفق مع المصلحة الأميركية. وإذا كانت سياسة أوباما تجاه المنطقة تتأرجح، كما رأينا، بين التناقض وأحلام لا تمكن المراهنة عليها، فمعنى ذلك أنه يريد رهن المستقبل الأمني للسعودية والخليج لأحلامه وطموحاته بأن يصنع فرقاً في تاريخ الرئاسة الأميركية، وهذا لا يمكن أن يكون مقبولاً.
الشراكة مع أميركا لا يجب بأي حال أن تعني الاعتماد الكلي عليها لحماية الأمن الوطني للسعودية ودول الخليج. تجربة المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق، وانكفاء أوباما يعنيان أن العلاقات السعودية- الأميركية وصلت ذروتها مع «عاصفة الصحراء»، بعدها دخلت مرحلة مختلفة تحيط بها الكثير من المخاطر، وهو ما يستوجب أمرين: الاعتماد على الذات بالبناء الداخلي سياسياً واقتصادياً، وامتلاك برنامج نووي يحفظ التوازن مع إيران، ومع إسرائيل أيضاً. هذه مرحلة مليئة بالعواصف، ولا يمكن التنبؤ بالوجهة التي قد تتخذها هذه العواصف وما قد تسفر عنه من توازنات وتحالفات في المستقبل.
إذا كان لا يمكن الاعتماد على سياسات أوباما، فإنه لا يجوز الركون إلى ما يقوله، ويعد ويحلم به.