أصبح تنظيم «داعش» على بعد مئة كيلومتر من العاصمة العراقية بغداد ويسيطر على قلب البادية السورية وعلى إحدى درر حضارتها العريقة، مدينة تدمر. ولا يخفي نواياه في التقدم، إذا استطاع، نحو حمص وصولاً بعدها إلى العاصمة دمشق.
عاصمتان في قلب العالم العربي مهددتان اليوم من خطر اجتياحهما من جحافل تنظيم إرهابي لا ينتمي إلى هذا العصر ولا إلى أي عصر، يضرب من غير رحمة ولا وازع، في المساجد والكنائس، في مواقع الحضارة والتراث، في قلب الأحياء والأسواق. لا اعتبار عنده لأي قيمة إنسانية أو رادع ديني أو أخلاقي.
كنا نقرأ في كتب التاريخ عن جرائم مغول هولاكو بحق بغداد بعد حصارها وإحراق مكتبتها على أثر هزيمة جيش الخليفة العباسي المستعصم وقتله في أوساط القرن الثالث عشر الميلادي (أواسط القرن السابع الهجري). كنا ندهش لتجرؤ أولئك الوحوش على إحراق الكنوز التي كانت تملأ «بيت الحكمة» في بغداد وإلقائها في مياه نهر دجلة التي اصطبغت باللون الأسود.
ولم نكن نتصور أننا سنعيش إلى يوم نخشى فيه على مصير هذه الآثار التي تقف أمامنا اليوم شاهدة على عصور من الحضارات تعاقبت على هذه المنطقة ولم تمسّها يد بسوء، منذ أيام الفتح الإسلامي إلى أزمنة الخلفاء الذين تعاقبوا على حكم هذه المناطق المترامية الأطراف. وإذا بنا الآن نقف جميعاً خائفين، مذهولين وعاجزين أمام معاول عناصر «داعش» ومطارقه تمعن تدميراً في هذه الآثار، من الموصل إلى مملكة الحضر إلى نمرود الأشورية، وصولاً اليوم إلى تدمر التي يُقلق مصير آثارها العالم المتحضر.
السؤال الذي نطرحه جميعاً على أنفسنا: من أين ولد هذا التنظيم؟ أية أرحام حملت هذه العناصر المجرمة التي تنضوي بين صفوفه؟ وما هو السبيل لمواجهة هذه الموجة التكفيرية التي تشكل اليوم تهديداً خطيراً لتراثنا وحاضرنا ومستقبل أجيالنا؟
لا بد من الاعتراف أولاً بحالة الفشل والانهيار التي تعاني منها الدولتان اللتان تشكلان اليوم المسرح الأساسي لتقدم جحافل «داعش» واتساع نفوذه، أي سورية والعراق. هل هي مجرد صدفة أن هذا التنظيم نشأ وأخذ يتمدد على مساحة كبيرة من البلدين في ظل نظامين يعتمدان الهوية المذهبية الواضحة كقاعدة للحكم والتعامل مع مواطنيهما؟ فلولا التفكك الداخلي ومناخ التطرف المذهبي، وسقوط القوة الأمنية التي تحافظ على وحدة الدولة وسيطرتها على أرضها، لما كان هناك مكان لـ «داعش» أو لأي تنظيم آخر، على حساب المؤسسات الأمنية التي يفترض أن تحمي حياة المواطنين وتحافظ على حقوقهم.
لذلك، ومن هنا، يجب أن يبدأ أي حديث جدي عن مواجهة «داعش» وهزيمته وتخليص منطقتنا من هذا «الفكر» التكفيري. لا بد من إعادة تكوين دولنا على أسس المواطنة الصحيحة، حيث يتحمل الجيش الوطني وحده المسؤولية عن حماية كل مواطنيه، وليس كما فعل الجيش العراقي الذي كان موجوداً في الرمادي وقبلها في الموصل، وهرب من المواجهة ليترك عاصمة محافظة الأنبار في يد «داعش». أو كما يفعل ما تبقى من جيش النظام السوري الذي يتصرف في المناطق ذات الأكثرية السنّية باعتبارها مناطق عدوة، ثم يطلق العناصر الإرهابية من سجونه للتكفل بـ «حمايتها».
سوف يكون مستحيلاً نجاح الحملة على «داعش» من دون كسب ثقة أبناء المناطق التي يسيطر عليها التنظيم وإشراكهم بصورة أساسية في هذه الحملة، وخصوصاً أبناء العشائر العراقية في الأنبار، ذلك أن أي مشروع فئوي مذهبي ضد «داعش»، كما يجري التخطيط له حالياً من قبل الحكومة العراقية، هو ورقة سوف يستخدمها التنظيم في حربه الإعلامية، خصوصاً في ظل مناخ الصراع المذهبي الدائر في المنطقة.
أما في سورية، وكما كررنا مراراً، فلا بد من استمرار الرهان على ما بقي من عناصر معتدلة في المعارضة، بعدما دفعت جرائم نظام الأسد أكثرهم إلى حضن المتطرفين والتكفيريين، على قاعدة «لا يفل الحديد إلا الحديد». ومن البديهي القول إن استمرار النظام في جرائمه سوف يدفع معظم المناطق السورية إلى حضن «داعش».
أما الاتكال على الدعم الأميركي في هذه المواجهة، فقد أثبت فشله مرة بعد أخرى، في ظل إدارة أوباما التي تنظر إلى مشاكل المنطقة، ومن بينها الصراع مع «داعش»، على أنها مسؤولية أبناء المنطقة أنفسهم، وأن عليهم بالتالي أن يقلعوا شوكهم بأيديهم. اهتمامات أوباما بالنسبة إلى منطقتنا هي في اتجاه آخر، تحتل إيران الأولوية فيه، ولا يشغله كثيراً التهديد الذي يشكله تنظيم «داعش» على حضارتنا ومستقبلنا.