عروبة الإخباري – جثث معلقة في عمق المسرح، وحفرة على الطرف قيد الانجاز، وشخصية رثة بخليط غريب من الازياء والاكسسوارات التي تضعها بين الشخصية الآدمية والغرائبية، لنعرف لاحقا انها شخصية ولدت من العظام الهشة، ولحوم الميتين المسلوخة، وتشارك دود الارض بالتغذي على الجثث، وتعمل الشخصية كمساعد للدفان، الذي ظهر بازياء معاصرة، كل ذلك في اجواء مقبرة غير محددة المكان؛ حيث الوحشة ونعيق الغربان، وكل ما في المكان يثير الاسئلة والقلق والترقب.
بهذا الاستهلال بدأت المسرحية الجزائرية ” 8 ايام في الاسبوع” المشاركة في مهرجان ليالي المسرح الحر، وهو عرض محمول على جناحي الوطن العربي، فالكاتب من الشرق العربي، وهو العراقي “علي عبد النبي الزيدي” واخرجه الجزائري “زروق نكاع” بعرض محمل بالرموز والدلالات، لكنها رموز غير مكتملة ومربكة، فهذه الشحنات العاطفية التي خلقها العرض عند المتلقي في البداية، بدأت بالتلاشي، اما دوران الحوارات، وعودتها للمربع الاول بالتكرار، واعادة صياغة نفس المضمون، والوصول الى اكثر من حالة ذروة تمثل نهاية للعرض، لكنها تعود لتطرح نفس المضامين من جديد دون اضافة حقيقية لفكر ودلالة العرض.
وربما اعتقد القائمون على العرض بأن القتامة والوحشة الجاثمة على الاجواء، يمكن التخفيف منها بالاداء الكوميدي “الهزلي” للممثل الذي قام بدور الدفان” محمد الحواس”، الا ان هذا الاداء اخرج المتلقي من اجواء العرض، سواء باستخدام طبقة الصوت، او السمة العامة للشكل، والشعر، والحركة، واستخدام اليدين والاصابع بمبالغة غير مفهومة، كل ذلك أفقد العرض الكثير من قيمته الجمالية، ذلك ان ثنائية المشاهدة عند المتلقي تفسد عليه العرض، لان اسلوب الاداء يستدعي اداء شخصية مسرحية كوميدية معروفة، تفرض نفسها كلما بالغ الممثل على الخشبة بالتقليد. وبالتالي فإن حالة التوتر التي حملها المشاهد منذ بداية العرض، وغرائبية المكان، والترقب المرافق لشخصية” الميت- الحي”، ومعرفة مصير هذه الحوارات الثنائية الطويلة، كل ذلك يتراجع امام حالة الخداع في الحوار مابين الميت والدفان؛ حيث الاول يبحث عن الماء، فيما الدفان يقايضه بالماء “الموعود” مقابل إكمال الحفرة، التي يتضح لاحقا انها ستكون قبرا له.
يجد الرجل الميت نفسه في مأزق، فهو غير مقتنع بانه ميت، وكل ما حوله يشي بالموت، ولا اجوبة لاسئلته امام دفان مهرج ومراوغ، وكلما حاول الخروج من المقبرة، تلحقه الكلاب بنباحها المسعور “بما تحمله كلاب الخارج من دلالة”. وهذه النقطة ما بين الداخل “المقبرة” والخارج” العالم الذي نعيش فيه” لم يتم التركيز عليها، الا من خلال نباح الكلاب، وحوارات على لسان الدفان كان يحكيها بشكل ميكانيكي دون ان يكون لها ذلك التأثير في عقل ووجدان المتلقي.
ويدرك الرجل الميت أنه في ورطة كبيرة امام دفان متحذلق، بارد المشاعر، ينتمي لعائلة امتهنت الدفن، ويجد في مجالسة الموتى راحة نفسانية، الى جانب ما يصله من مردود مادي سواء بما يأخذه من اهل الميت، او بما يسرقه من الاموات انفسهم. وما بين اصرار الرجل على انه ليس بميت، واصرار الدفان على دفنه، فإن الرجل يخاطب إنسانيته، لكنه يصر على مقولته ان الحفرة هي عالم الاحياء الابيض الجميل، وانهم هم احبته، وانهما طرفا المعادلة الحتمية، فالرجل جاء ليموت، وان الدفان متفرغ لدفنه هو وامثاله.
ويدرك الرجل انه ميت لا محالة، ولا خيار ابدا، حتى عندما يطلب من الدفان أن يسمح له بكلمة اخيرة، فلا يسمح له ويتحدث نيابة عنه،، وينصحه بأن يكمل حفرته بيديه، لأنها هي مستقبله، وكلما حاول الرجل ان يستجمع شجاعة الرفض، فإن الدفان يحاصره بالكلام، او يرهبه بمساعده المسخ، واخيرا يخضع الرجل، ويلبس الكفن، ويدخل الحفرة، مستريحا من وحشة الداخل، وسعار وجنون ووحشية الخارج، فالسلطة والقمع هنا وهناك، والانسان العادي هو ضحية مستلبة الارادة، ومسلوب ماتبقى له من متاع الحياة، فهو غير قادر على الاختيار، والخيار الوحيد امامه هو الموت، وبالطـريقة التي يرسمها الآخرون له، وممنوع عليه ان يحتفظ حتى بتذكارات لها دلالة في وجدانه، فكان ان اخذوا الخاتم منه بعد ان قطعوا أصبعه بطريقة وحشية. عمل وضعنا بأجواء غرائبية، وطرح سؤالا وجوديا مهما، لكن لم يعمل باشتراطات العرض المسرحي الذي يحمل هذه القيمة العالية.