في العام 1976، تعرفت إلى الصديق الغالي سعيد دروزة، إذ كنا ندرس سوية في جامعة بردو في الولايات المتحدة، ونشأت بيننا صداقة متينة إلى يومنا هذا. وقد أخبرني سعيد حينئذ كيف أن والده أسس للتو، مع بعض الأصدقاء، شركة صغيرة للأدوية في الأردن، برأس مال متواضع لم يتجاوز نصف مليون دينار، إن لم تخني الذاكرة. وعرفني سعيد إلى والده عقب عودتنا كلينا إلى الأردن بعد ذلك ببضع سنوات. ومنذ ذلك الوقت وأنا أرقب بإعجاب كيف نمت شركة “أدوية الحكمة” بثبات، حتى باتت اليوم مدرجة في سوق لندن للأسهم، وهي إحدى أكبر مائة شركة في تلك السوق، وبقيمة تزيد على أربعة آلاف مليون دينار أردني حالياً.
لم يحقق سميح دروزة ذلك بسبب أموال النفط، ولا بارتفاع أسعار الأراضي والعقارات، بل حققه باعتماد الإنتاجية والابتكار، وتدريب وإعداد الكوادر الفنية والإدارية، ثم الوثوق بها وتسليمها المسؤولية اللازمة لتطوير الشركة وتحقيق هذا النجاح الأسطوري. كل ذلك بجهد لا يكل، وبنظافة اليد. ومن ثم، فليس صحيحا أن شركة صغيرة في بلد صغير غير نفطي، لا تستطيع بالكد والعمل واعتماد الإنتاجية، أن تصل إلى درجة منافسة الشركات العالمية، ولتكون الشركة الأردنية الوحيدة المدرجة في سوق لندن للأسهم.
كم هي كبيرة الدروس التي علّمنا إياها أبو السعيد؛ فليس النجاح المالي هو الدرس الوحيد، أو حتى أهم تلك الدروس. إذ إن كل من كان يعرف سميح دروزة كان يدرك مدى تواضعه طوال حياته. لم ينل المال منه أبدا، بل كان يعطي منه، على الدوام، بسخاء ومن دون ضجة. كان يؤمن بالتعليم أساسا للنجاح، فأوفد العديد من موظفيه ليتعلموا في الخارج، وليعودوا ويستلموا مناصب إدارية في الشركة من دون أن يستأثر باتخاذ القرار، كما يفعل العديدون. وأعطى بسخاء للمؤسسات التعليمية في الأردن والوطن العربي، من دون ضجة إعلامية ولا سعي إلى مجد زائف. وكانت الجامعة الأردنية، وجامعة بيرزيت، والجامعة الأميركية في بيروت، وغيرها الكثير، ممن دعمها بسخاء. وقبل مماته، وهب سميح دروزة الكثير من ماله لمؤسسة تحمل اسمه، لتواصل عمله الدؤوب لخدمة مجتمعه، في خطوة لا يفعلها الكثيرون في بلادنا.
منذ أكثر من ثلاثين عاما وأنا شاهد على إيمانه بالجيل الجديد. وقد ظل يدرب ويسلم الشركة تدريجيا ليس لابنيه سعيد ومازن فقط، بل أيضا لكادر طويل صرف على تعليمه بالكامل؛ فكانت النتيجة أن كبرت الشركة بسبب نظره الثاقب، كما بسبب إيمان العاملين فيها وولائهم لها.
لا أشعر أننا نعطي قصص النجاح في بلدنا ما تستحق من تقدير، لكأن حالنا هي الاعتقاد بأن الإقرار بنجاح أحدنا هو انتقاص من قدراتنا، وكأن نجاح الفرد يعني فشل الآخر! الاحتفاء بالنجاح تعظيم للقيم الواجب زرعها في النشء، بما يؤدي إلى تكاثر النجاحات وازدهار المجتمع. لم يكن سميح دروزة بحاجة لتكريم شخصه أبدا، ومع ذلك أعطته الجامعة الأميركية في بيروت، والتي تخرج منها، الدكتوراه الفخرية. كما منحته ذات التقدير جامعة ميسوري.
ينضم سميح دروزة لقائمة من الأردنيين الحداثيين الذين أثبتوا نجاحا خارقا في بلدهم وفي الخارج، لأنهم آمنوا بالإبداع، وبجيل الشباب والعمل المخلص النظيف (لا يسعني هنا إلا أن أستذكر أستاذي وصديقي المرحوم كمال الشاعر). ونحن نذكره ونذكرهم اليوم، لأننا حين نكرم المبدع نحتفل بالإبداع، وحين نعترف بالناجح نعظم النجاح.
رحمك الله يا أبا السعيد؛ كنت أكبر قدوة، وخير مثال يحتذيه الجيل الجديد.