بدا الحكم القضائي المخفف بحق الوزير اللبناني السابق ميشيل سماحة، صادماً لأكثرية المخاطبين بهذا القرار المسيس، على نحو أشد وقعاً وأوسع نطاقاً مما اعترى هؤلاء من ذهول ليلة القبض، أواخر العام 2012، على رجل دمشق متلبساً بالجرم المشهود، ناهيك عن التسجيلات المصورة المرفقة، والاعترافات الطوعية اللاحقة بتهريب متفجرات فتاكة، لإثارة فتنة طائفية جديدة، في البلد الذي لم يبرأ بعد من جراح حربه الأهلية المديدة، وذلك بالاشتراك مع رئيس مكتب الأمن القومي السوري علي مملوك.
ولعل أكثر ما لفت انتباه الذين شاهدوا مقاطع الفيديو، الموثقة لتلك الواقعة الجرمية الموؤودة في مهدها، هي برودة الأعصاب، إن لم نقل انعدام الحس الآدمي، لدى رجل سياسة وإعلام ذائع الصيت، كان وهو يعطي تعليماته لعميل مزدوج، لتفجير إفطارات رمضانية، وقتل نواب وعابري سبيل، وشخصيات دينية مرموقة، إسلامية ومسيحية، أقرب ما يكون إلى زعيم عصابة مافياوية متبلد الحس، ضاق ذرعاً بمنافسين له على استحواذ الثروة والنفوذ.
غير أن السؤال الذي لم يتم طرحه منذ إيداع مستشار الرئيس السوري وراء القضبان، وغاب عن الأذهان تماماً في زحمة الانفعالات التي لم تهدأ بعد، هو أين هم رفاق ميشيل سماحة وزبانيته المبثوثون في النسيج الاجتماعي اللبناني، وأيضاً في دول الجوار السوري، ممن قد يكون بعضهم قد تورط بما انزلق إليه أحد أبرز المنافحين عن محور الممانعة، اعتقاداً من هؤلاء المتحمسين لقلعة المقاومة الأخيرة، أن عليهم واجب المساهمة، كل حسب استطاعته، في قبر المؤامرة الكونية، بنت النظام الشمسي اللئيمة.
وقد يكون التغاضي عن طرح مثل هذا السؤال المشفوع بالقلق المشروع والتحسبات الأمنية، هو أحد أهم العوامل التي وقفت وراء اغتيال رئيس شعبة الأمن الداخلي اللبناني وسام الحسن، الذي كانت له اليد الطولى في كشف جريمة ميشيل سماحة، والقبض عليه متلبساً بأدوات الجريمة، حيث تجلت مظاهر العقلية الانتقامية من جانب مشغلي سماحة، في واقعة تفجير موكب الرجل الذي كان أول من أمسك بتلابيب أول متهم، بالتخطيط أو التنفيذ، بإنتاج حلقات تلك السلسلة الطويلة من الاغتيالات المقيدة جميعها ضد مجهول.
لذلك، وعلى سبيل التحوط، ينبغي إعادة طرح هذا السؤال المسكوت عنه، ليس في لبنان وحده، وإنما في كل بلاد الجوار السوري، خصوصاً لدى العارفين بذهنية نظام دموي لا يرعوي عن تحقيق مآربه الفظيعة، وتسديد حساباته السياسية المؤجلة، بكل الأدوات والسبل المتاحة، على نحو ما شهدناه في لبنان مراراً، وما سمعنا عن حدوثه في تركيا تكراراً، ونجا منه الأردن حقا، ليس بفضل حسن حظه فقط، وإنما أيضا بفعل حدسه السياسي الصائب ويقظته الأمنية المرهفة.
وليس في الأمر اتهام لأحد بين ظهرانينا، من القلة القليلة المدافعة عن نظام استبدادي فاسد، عديمة الحساسية تجاه عذابات شعب يقتل بالغازات والتجويع والبراميل المقنبلة، وفاءً من أركانها لخلفيات فكرية من الماضي، بعضها قومي وبعضها الآخر يساري؛ وإنما نقول هذا استدراكاً لمفاعيل نهج بوليسي عتيد، لا يقيم وزناً للحلفاء والأصدقاء والمؤيدين، بل فقط للاتباع والمخبرين وعميان البصيرة. أي إن المشكلة هناك عند النظام الذي حول الحزب والإدارة الحكومية وأعضاء مجلس الشعب، وحتى سائقي السيارات العمومية، إلى كتاب تقارير تابعين لشتى فروعه الأمنية. وليست المشكلة هنا لدى المصدقين لمبالغات إعلام الأسد وعنتريات محور الممانعة، ممن لم يسمعوا حتى الآن، أو انهم لا يودون سماع دوي انهياراته المتتالية.
فإذا كان الجهاز الذي يديره على مملوك لم يتعفف عن المجازفة بمصير شخصية لبنانية بارزة، بوزن ميشيل سماحة، وألحقه بشبكة عملائه السريين، فما الذي سيحول دون عمداء هذا الجهاز الذي لا يفكر إلا بالبعد الأمني فقط، من العمل على توريط أي من الفخورين بأنهم “شبيحة” (على نحو ما سمعت هتافهم ذات وقفة أمام السفارة السورية)، ومن ثمة دفعهم إلى ما دفع إليه شبيح كبير مثل سماحة، طالما أن المكيافيلية التي تم اختبارها في لبنان تمت بنجاح منقطع النظير، وذلك كله على قاعدة أن الغاية التي تبرر الوسيلة، يمكن إنفاذها مرة أخرى، حيث تحين الفرصة، وتقع الفرائس إراديا في خيوط الشبكة الجهنمية.