آخر ظهور له، بالصوت والصورة، كان بعد منتصف ليلة السابع عشر من آذار (مارس) الماضي، حين دلف منهكاً إلى خشبة قاعة تغص بالمؤيدين، بصحبة زوجته التي أمطرها بالقبلات مرارا، وشكرها على دعمها له، في سباق انتخابي حامي الوطيس، انتهى بتحقيق فوز كيبر، فاجأ به نفسه قبل أن يفاجئ حلفاءه وخصومه وأعداءه والمراقبين (وحتى أوباما وأبو مازن)، ناهيك عن مراكز استطلاع الرأي.
منذ تلك الليلة التي تلألأ في كبدها نجمه من جديد، وملأ فيها كبير الشبيحة في حارة الشرق الأوسط مساحات شاشات التلفزيون ومقدمات الأخبار، توارى صاحب الانتصار الانتخابي المثير عن الأنظار، وأمسك عن الكلام الذي أوقعه في وهدة العنصرية طوال ذلك النهار، حين حرض ضد العرب، بل وكسر قواعد اللعبة الانتخابية على رؤوس الأشهاد.
وعلى مدى نحو ستة أسابيع حافلة بالمساومات والابتزازات والمناورات الداخلية، لم يحظ رئيس الحزب الفائز بانتخابات الكنيست الإسرائيلية بأي اهتمام خارج دائرة المتسابقين على توزيع المغانم والجوائز والمقاعد الوزارية، التي ترك بنيامين نتنياهو إدارتها لمحاميه وبعض مساعديه، قبل أن يتدخل بنفسه لدى استعصاء الأمر، ويعلن بشق الأنفس، في الدقيقة التسعين من الموعد المقرر سلفاً، نجاحه في تشكيل الحكومة بأغلبية إصبع واحد.
وليس أدل على سقوط نتنياهو من دوائر الاهتمام الخارجية، التي سبق لها الانخراط في متابعات حثيثة للشأن الانتخابي الإسرائيلي، لاسيما الدوائر العربية، أنه كان من النادر أن يعثر المرء طوال تلك الأسابيع على تقرير، أو على تعليق من مراقب مختص، يتطرق فيه إلى ما كان يدور داخل الحلبة الحزبية الإسرائيلية من توافقات، أو خلافات على الحصص والأموال.
وإذا ما أخذنا الصحافة المحلية، التي كانت في مرات سابقة تفرد الصفحات الطوال لآراء المعلقين، وتستكتب المطلعين على دهاليز الحياة الحزبية الإسرائيلية، لبيان سير المجريات داخل القلعة الحصينة، فإننا نكاد لا نجد كاتباً مرموقاً، أشغل عموده الصحفي بأمر تلك المساومات داخل ائتلاف يميني متطرف. ولولا زميلنا برهوم جرايسي في “الغد”، لما انتبهنا أن هناك حكومة إسرائيلية قيد التشكيل.
وعلى هذا النحو من عدم الاكتراث، بدت معظم الصحف ووسائل الإعلام العربية أيضاً؛ مبتعدة بعيدا عن تناول شأن لم يعد محل اهتمام، إن لم نقل إنها كانت ضنينة بنفسها وبوقتها عن الانشغال بمسألة هامشية، قياساً بما تزاحم على صدارة الصحف ومنابر الإعلام من قضايا عربية ساخنة، بات لها قصب السبق في سائرالتغطيات.
وعليه، لم يسأل أحد بيننا نفسه، طوال تلك الفترة، أين اختفى نتنياهو بعد فوزه الكبير؟ ولماذا توارى عن الأنظار أحد أكثر زعماء إسرائيل حبا للظهور الكثيف في وسائط الإعلام؟ لاسيما أنه كان لدينا ما يكفي، وربما يزيد، من الموضوعات التي تستقطب جل ما في الأذهان من هموم، كانت الأولى بالمتابعة، والأجدر من كل ما عداها بالتعقيبات.
ومن يتابع تقرير الصحافة الإسرائيلية اليومي، وأنا واحد من المتابعين، سيلفت انتباهه أن المعلقين المنهمكين بنتائج انتخابات الكنيست هناك، لم يعثروا بدورهم على نتنياهو إلا عشية الإعلان عن قرب تشكيل حكومته، حيث أمطروه بوابل شديد من الانتقادات، وعابوا عليه استسلامه لمطالب حلفائه من غلاة اليمين و”الحريديم” والمستوطنين، الذين سيتولون قريباً إدارة دفة السفينة المبحرة نحو العنصرية ويمين اليمين.
وفيما كان ظهور الشبيح الأكبر، قبل عدة أسابيع، ظهوراً طافحاً بالزهو والاعتداد بالنفس، بدا ظهوره الأخير وكأنه حبّة ليمون بعد العصر، لشدة ما تعرض له من ضغوط، أرغمته على بيع كل مقتنياته السياسية من أجل استرضاء شركائه في الحكومة الائتلافية، وجردته من قدرته المعهودة على المراوغة إذا ما طلب إليه يوما البحث في عملية السلام.
خلاصة القول، أن احتجاب نتنياهو عن الأنظار، وخروجه عن نطاق التغطية، وفق مفردات شبكة الاتصالات، كان تحصيل حاصل، لنا نحن الذين لديهم همومهم المحلية الملحة واهتماماتهم العربية الطاغية على غيرها من الأحداث. وبالتالي، ما كان لتواري هذا الشبيح السياسي وأوبته أن يثيرا أي جدال، لولا أن ذلك يعكس في واقع الأمر قلة اهتمام موازية بالحالة الفلسطينية، التي هبطت بدورها عن صدارة جدول أعمال العرب، شعوباً وحكومات ووسائل إعلام.
عيسى الشعيبي/احتجاب شيخ شبيحة الشرق الأوسط
22
المقالة السابقة