عروبة الإخباري – يرحلُ شاعرُ أفريقيا والعروبة محمد مفتاح الفيتوري، ومن قبله ابن صعيد مصر الشاعر عبد الرحمن الأبنودي – رحمهما الله – في زمنٍ عربيٍّ صعب، تملأُ مرارتهُ الحناجرَ والحلوق أسىً بما تمرُّ بِهِ الأُمّة من محنٍ، وحروبٍ بالإنابةِ، في أجزاءَ من محاضنِ عروبتها التاريخيّة والجغرافيّة، في العراق وسورية واليمن وليبيا. وتبدو خسارة الأصوات الإبداعيّة في هكذا زمن في عمق خسارة الأُمّة لمواردها وثرواتها البشرية والماديّة أمام حالة التطاحن والفُرْقَة والتشرذم المذهبي والطائفي، ونُذُر انكفاءِ الأمل في لهيبِ الألم!
فشاعرنا، الذي ناضل بالكلمة ووهب نفسه لعروبتها كما وهبها لأفريقيّته، صرحٌ في عالم الإبداع الإنساني لمعاني الحرّيّة وصوتٌ صافٍ من مَعينِها:
“أصبحَ الصُّبحُ ولا السجن
فلا السجن ولا السجان باقٍ
وإذا الفجر جناحان يرفّان عليكَ
وإذا الحُسن الذي كحَّلَ هاتيكَ المآقي
والذي شدَّ وثاقًا لوثاق
والذي بعثرنا في كلِّ وادي
فرحة نابعةً من كل قلب يا بلادي
أصبح الصبح
وها نحن مع النور التقينا
التقى جيل البطولات بجيل التضحيات
التقى كلّ شهيد قهر الظلمَ ومات…”
ولولا حضارة الشِّعر وإرثها المتوقِّد عِبر الأزمانِ والعصور لَخَفَتَ الصوت الإنسانيّ التائق دومًا إلى تحقيق الأمن والكرامة لبني البشرية. أقول ذلك وفي قولي إنَّ الشِّعر كان، ونأمل أن يظلَّ، عمودًا من أعمدة النهضة العربيّة التي هي في الأساس نهضة ثقافيّة فكريّة. وبهذه السِّمة عبَّر شاعرنا الرّاحل الفيتوري عن صرخة الأمل:
“يا أخي في كلِّ أرضٍ عريت من ضياها
وتغطَّت بدماها
يا أخي في كلِّ أرضٍ وَجَمَت شفتاها
واكفهرَّت مُقْلَتاها
قُم تحرَّر من توابيتِ الأسى
لستَ أعجوبتها
أو مومياها انطلق
فوقَ ضُحاها ومساها.”
وليست المعاناة الأفريقية، التي طَبَعتْ شعر الفيتوري بظلالها النضاليّة التحرّريّة ضدّ الاستعمار، والصراع ضدّ الرّق، وامتهان كرامة البشر، إلاَّ وجه آخر لمعاناة الإنسان العربي، وخاصة ضمن تداعيات القضيّة الفلسطينيّة، التي ما زلنا نعيشها يومًا بيوم، ولحظةً بلحظة:
“لقد صبغوا وجهكَ العربيّ
آه… يا وطني
لكأنكَ، والموت والضحكات الدميمة
حولكَ، لم تتشح بالحضارة يومًا
ولم تلد الشمسَ والأنبياء…”
والسودان والنوبة ودارفور، وطن الفيتوري ومنبته، صورة للوطن العربيّ الكبير، الذي تنقَّل فيه وانتمى إليه بجنسيّة الكلمة والشِّعر، والاعتزاز واحد وإنْ اختلفت التعابير والصور عنه:
أبدًا ما هُنتَ يا سوداننا يومًا علينا
بالذي أصبحَ شمسًا في يدينا
وغناءًا عاطرًا تعدو بهِ الريح، فتختالُ الهوينى
وإنّنا إذ نستذكر في الأردن زيارات الراحل الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري ومشاركاته في بعض المناسبات الثقافيّة والشعريّة، ومن أبرزها مهرجان جرش، وما قدَّمه للشِّعر العربي المعاصــــــر من تجارب ورؤى إبداعيّة، لنشارك أســـــرة فقـــيدنا العزيز وأبناءَ الســــودان الشقيـــق والعروبة والإنســــــانيّة أحزانهم بوفاته، ضارعين إلى المولى عزَّ وجـــــلّ أن يتــــغــمّده بواســــــع رحــــمته ورضــوانه، (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).