لم يتفاجأ العارفون ببواطن الأمور داخل أروقة صنع القرار الرسمي وخارجه، ولم يدهشهم قرار جماعة الإخوان المسلمين تأجيل مهرجان الذكرى السبعين لتأسيس الجماعة إلى أجل غير مسمى، أو قل إلغاء ذلك الاحتفال الاستعراضي، الذي لم يعد بوسع “الإخوان” إقامته في أي ظرف مقبل بعد اليوم، أو حتى مجرد الدعوة إليه في المدى المنظور. ومن المرجح أن هذا الاستنتاج المؤلم لأكبر جماعة دينية/ سياسية في الأردن، كانت تبدو فوق القانون في أغلب المراحل السابقة، قد استقر في صميم وعيها منذ الآن.
لذلك، لم يحبس الكثيرون بيننا أنفاسهم، وبالتالي لم يتنفسوا الصعداء، بطي صفحة المهرجان قبل يوم واحد من عقده، وتبدد سحابة تلك الهواجس الطفيفة بوقوع صدام غير محمود، ساورت قلّة قليلة من حسني النية، ممن أخذوا على محمل الجد الكلام الكبير عن حشد الحشود الغفيرة من المحافظات، وأزعجهم التلويح بوقوع “رابعة عدوية” صغيرة في طبربور، تكون بمثابة مشهد تلفزيوني اختتامي، لنهاية تراجيدية محتملة، تؤجج الشعور بالمظلومية، وتدشن لمسار سياسي خشن، كان بعضهم قد هدد باعتماده ذات يوم، في بواكير ما عرف باسم “الربيع العربي”.
على أي حال، ومن حسن حظ الجميع، انتصرت الحكمة في ربع الساعة الأخير، ورجحت كفة الواقعية السياسية لدى جماعة كانت تغمز دائماً من قناة الواقعيين، وتضربهم على ظهور أيديهم كعقاب خفيف. الأمر الذي يمكن تسجيله في ميزان حسنات من كانوا، حتى الأمس القريب، يرفضون الحلول الوسط لصراعاتهم الداخلية المحتدمة على نصاب القيادة لا على صراط الدعوة، ويطالبون الشراكة في الحكم غلابا وعنوة، ويترفعون عن الحوار مع نظرائهم في المعارضة، بل ويقاطعون التحاور مع الحكومة، ولا يقبلون الجلوس مع رأس الدولة.
إلا أن هذا التقبل الاضطراري لحقائق الأمر الواقع العصيبة، ينبغي ألا يحجب الأبصار عن المعطى الأكثر أهمية في قرار فض المهرجان قبل عقده، ونعني بذلك الموقف الصارم الذي اتخذته الدولة، بعدم السماح بعقد احتفالية، رأى فيها صاحب القرار الإداري أنها من تدبير جماعة غير مرخصة، ومن ثمة إنهاء سياسة غض البصر المديدة، والكف عن منهج الاسترضاء والمجاملة، الذي فُهم، أو جرى تأويله، على أنه دليل ضعف، وقرينة على الخشية من إغضاب الجماعة الطويلة العريضة.
فبعد كل الانقسامات التي حدثت داخل بنية الجماعة، ناهيك عن المستجدات التي عصفت بالحركة الأم وفروعها داخل الإقليم كله، بدت الدولة مصممة هذه المرة، أكثر من أي وقت مضى، على الكف عن وضع الندى في موضع السيف، حسب أبي الطيب المتنبي، وقررت إنفاذ القانون من دون نقصان أو زيادة، حيال التنظيم الذي ترعرع في حضن الدولة، فلما شب عن الطوق واشتد عوده، بدا يقعقع لها بالشنان منذ نحو أربع سنوات، ويظهر قدراً متزايداً من الاستعلاء على منظومة دستورها وقوانينها ومؤسساتها.
إذ رغم حالة التراجع والانكفاء التي أصابت التنظيم الدولي عابر الحدود، وحاقت بمستقبله أسوأ الاحتمالات في سائر الدول المجاورة، إلا أن إخوان الأردن لم يستوعبوا الدرس الثمين، ولم يتعظوا من العبر الكثيرة، إن لم نقل إنهم آثروا السير عكس الاتجاه العام، واستهانوا بكل الأضواء الحمراء، حتى إنهم لم يلتقطوا مغزى المحاكمات والاتهامات بوصمة الإرهاب في دول الجوار، فكانوا بذلك كله كمن دخل بقدميه في متاهة الزمن الجديد، وهو مفتوح العينين على اتساعهما الكامل.
لسنا هنا في معرض الشماتة، ولا نقول هذا من باب المناصحة التي فات أوانها، وإنما نرغب في التأكيد على مسألتين جوهريتين: أولاهما، أن مصير أكبر منظمة حزبية في أي بلد، سوف ينتهي إلى الزوال حتما، إذا لم تكن لديها قيادة واقعية معتدلة، تحسن قراءة الواقع ولا تستعلي على حقائقه المتغيرة. وثانيتهما، أن أي دولة تتراخى في تطبيق قوانينها النافذة، لن تتمكن من تحقيق الاستقرار أو النمو أو العدل أو المواطنة أو السلم الداخلي أو حتى مجرد البقاء، ناهيك عن تحقيق أي من الأهداف الوطنية، تماماً على نحو ما تقصه علينا ببلاغة شديدة، واقعة مهرجان بات في ذمة التاريخ، وتحول إلى ضربة مرتدة أصابت أصحابه في الصميم.
عيسى الشعيبي/”الإخوان” بعد إلغاء المهرجان
22
المقالة السابقة