مع مرور الأيام وفي ظل واقع عربي، أقل ما يوصف بأنه مرير، وغير مستقر، يصبح الحديث عن الأوطان واستقرارها وبناء مجتمعاتها السليمة واجباً على كل صاحب عقل ومسؤولية وموقف. وأقول إنها المسؤولية الفكرية والأخلاقية التي تعيدنا إلى ضرورات الحديث من جديد عن انبعاث المجتمع والحيلولة دون العنف المجتمعي ورفض الثنائيات والتقسيمات التي تجزئ الكل وتفتت المشترك.
ليس هذا الحديث بعيدا عن الواقع المحلي، الذي لا يفيد كثيراً من حالة انقسام الإخوان المسلمين وهم الجماعة الإسلامية التي نادت دوما بشعار الإسلام هو الحل، والتي كان يجب أن تقدم النموذج في حب الوطن والعمل لأجله، بل لأن النهايات غير المرجوة التي وصلت لها تستعدي الدعوة لكلمة سواء بين الفريقين وبين كل مظاهر الاختلاف بما يزيل العوائق ويبدد الشك والعدمية، وينهي حالة الاستقطاب ويعيد الجميع للحوار الذي إنْ انتهى أو أصابته قطيعة فإنه يمثل إعلاناً بالانسداد وغياب التواصل وبالتالي الفشل.
وما نحتاجه في الأردن المزيد من الحوار ومشاطرة العقول للأفكار، والتجمع على أسس المصالح والمواطنة الفاعلة والهموم المشتركة، وبهذا يمكن لنا أن نواجه تحدياتنا، وهذا الحوار هو الذي يمثل الخلاص من الاستقطاب ومظاهر العنف المجتمعي التي نجدها في ساحات الجامعات والمستشفيات وفي المؤسسات، ولا ننسى العنف الفكري في حوار النخب وفي الكتابات وهو ما تكشفه مرايا الإعلام المختلفة.
وإذا ما نظرنا إلى كل ما يقال عن قيم المجتمع والانسجام والازدهار، وأنزلناه على مقاييس العيش اليومي، فإننا نجد صورة غير متفائلة، ولا حل لضبط المشهد إلا بالوصول لدرجات عامة من التوافق الوطني العام تجاه القضايا الكبرى، مثل المشاركة السياسية وقانون الانتخاب واللامركزية وغيرها. وحين نتحدث عن الازدهار المجتمعي المشترك لا يعني هذا التنازل عن الثوابت والأفكار بل هو أحد الطرق المؤدية للتوافق على المشتركات.
لقد أسس الأردن لحظات بناء وطني كبيرة، وكان للانطلاقة التي تحققت مع بداية عقد السبعينيات وفق خطط مدروسة، واستمرت مدة من الزمن، دور كبير في الوصول إلى ما يريده الإنسان والدولة معا، ونحن اليوم أحوج ما نكون للتواصل المثمر لتحديد الأولويات وليس الاختلاف لأجل التمايز وهو ما ينتج عنه مظاهر عديدة من التعصب.
لقد تحدثنا من زمن طويل وقدنا حراكاً أمميا في الأمم المتحدة وضمن البيئة المستقلة الخاصة بالقضايا الإنسانية في العالم، لنبذ التطرف والتعصب والصراعات الطائفية، التي تغلف جوارنا اليوم، والتي تعدُّ مسؤولة عن آلاف القتلى والمشردين والمقتلعين. وهذه الصراعات لا سبيل إلى حلها ما دامت سبل الحوار منقطعة وغير ممكنة الحدوث.
أعود مرة أخرى وأُذكِّر بأن المجتمع الأردني معنيٌّ بكل مظاهر الصراع التي تحدث، لكي يستفيد من دروسها ونتائجها، ولكن في ظلال دروس الاستفادة لابدّ لنا من أن نولي الشأن المحلي الدرجة الأعلى من الاهتمام المسؤول، والذي يشخِّص لنا أسباب العلل ويقدم الحلول ويضع أمام صانع القرار ما يمكن أن يكون سبيلاً للاستثمار في العقول البشرية وثروة الوطن الأولى وهي الطاقة البشرية المدربة والمؤهلة للعمل والتنافس.
صحيح أنه قد لا يكون بوسعنا التقدم لمشاريع عملاقة، لكن بالوسع أن نصل لحالة من الانسجام والتوافق المفضي للمزيد من الديمقراطية ودولة المواطنة، ولكي يؤسس المستقبل الأردني دون مخاوف الطاقة والعمل والمياه وهي مخاوف ضاغطة وتواجه صانع القرار كل يوم؛ لذا لا بدّ من المزيد من النقاش والتفكير في الحول والمساهمة في الأحداث وتحليلها، ويكفي أن تعشش الهزيمة ومخاطر التفكيك في نهارنا السياسي ويكفينا من الإجابات الجاهزة، ولننطلق إلى مرحلة الأسئلة المشروعة التي تنهي حالة الانسداد الديمقراطي والفوات التاريخي. ولننتقل من حالة التعصب والتمذهب إلى حالة المبادرة الإيجابية على مختلف الصعد والاتجاهات.
الأمير الحسن بن طلال/طريقنا للتقدم والازدهار المجتمعي
19
المقالة السابقة