رغم ما قد يُقال من ملاحظات نقدية بشأن المشاركة العربية في انتخابات الكنيست من قبل العديد من القوى والمؤسسات العربية في الداخل عام 1948، ومن قبل بعض القوى الفلسطينية. فقد شكّل حصول القائمة العربية الموحدة على (14) مقعدًا في الكنيست العشرين (يوجد مقعد منها لليهودي اليساري دوف حنين من حزب راكاح) بعد الإعلان النهائي عن نتائج الانتخابات التشريعية “الإسرائيلية” خطوة نوعية في مسار الحضور العربي في المؤسسة التشريعية الأولى المُفترضة في “إسرائيل”، رغم نسبة الضياع الكبيرة في الأصوات العربية، ومقاطعة قطاعات كبيرة من المواطنين العرب للعملية الانتخابية أصلًا، ورغم الشروط القاسية للعمل البرلماني للنواب العربي داخل الكنيست التي تَضُمُ عتاة من المُتطرفين ومجانين السياسة “الإسرائيلية”.
الدرس الأساسي في المشاركة العربية بالعملية الانتخابية، ونتائجها، تؤكد أن وقائع الحياة اليومية وتداخلاتها في المجتمع “الإسرائيلي” تجعل من الصعوبة بمكان إغفال الحقائق والتحوّلات التي تتشكّل كل يوم على أرض فلسطين التاريخية، وهي تحوّلات يَرسمها مواطنو الداخل من الفلسطينيين أصحاب الوطن الأصليين أكثر من غيرهم من اليهود الذين جاءوا إلى فلسطين من أصقاع المعمورة في موجات الهجرات الاستيطانية الكولونيالية، وخاصة منها الهجرة الاستيطانية الكبرى أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي من دول الاتحاد السوفييتي السابق.
إن أول تلك التحوّلات والحقائق، تقول بأن زمن الترانسفير والتطهير العرقي لما تبقى من الفلسطينيين داخل حدود العام 1948 انتهى وإلى الأبد. وثاني تلك الحقائق أن مقولة “الدولة اليهودية النقية” باتت خلف التاريخ ولم يعد لها من مكان. وثالث تلك الحقائق أن العملية الكفاحية الفلسطينية داخل حدود العام 1948 عملية تراكمية تعطي نتائجها بالتوالي الزمني، فقد سقطت “الأسرلة” بعد عقود طويلة من النكبة ولم يعد بالإمكان الحديث عنها. ورابع تلك الحقائق أن هناك حدودًا مُمكنة للعمل العربي في الكنيست يمكن لها أن تتسع يومًا بعد يوم، وأن اتساعها رهن بتطور العملية الوطنية الفلسطينية بشكلٍ عام، بالترابط بين مكوناتها.
إن التحولات والحقائق التي نُشير إليها، نلحظها تتواتر وتنطلق من حين لآخر من بين شفاه العشرات من عتاة السياسيين والمفكرين “الإسرائيليين”. فقد شكّلت الصرخة التي أطلقها أكثر من مرة عضو الكنيست عن حزب العمل “الإسرائيلي” ورئيس الكنيست بين (1999 ـــ 2003) أبراهام بورج، إعلانًا ذا معنى بحدوث التحولات إياها، فما قاله أبراهام بورج يحمل الشيء الكبير من الدلالات والمعاني، ومن دروس التجربة التاريخية بقوله “الدولة التي تفتقر إلى العدالة لا تدوم”. وأنه “لا يمكن أن نترك غالبية فلسطينية تحت الجزمة الإسرائيلية ونعتبر أنفسنا في الوقت عينه الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. لا ديموقراطية بدون حقوق متساوية لكل من يعيشون هنا، العرب واليهود على السواء”.
أيضًا، تيار “ما بعد الصهيونية” الذي يقوم على نسف حقيقة الصهيونية القائلة بأن (الدولة/الأمة اليهودية)، معتبرًا إياها لم تَعُد الحل الملائم من أجل اليهود، حيث يُشكّل بدوره تيارًا هامًا رغم أنه ما زال تيارًا مُتواضع الحضور والفعل والتأثير، ويقوم على يد جماعة صغيرة من المُفكرين. وقد يكون مشروع “ما بعد الصهيونية” لم يستقر ضمن مفهوم واضح، فمفهوم “ما بعد الصهيونية” ظهر بين أفراد الطبقات المتوسطة “الإسرائيلية” وفي الوسط الأكاديمي على وجه الخصوص، حيث تجنب الأخذ برواية الميثولوجيا الصهيونية، ونَبَذَ الأساطير التاريخية، وأبدى التزامًا بالحقوق المدنية أكثر من الالتزام العرقي أو الإثني لعموم السكان على أرض فلسطين التاريخية.
تيار “ما بعد الصهيونية” إياه يُمثّل انقطاع عن الصهيونية وليس شكلًا معاديًا تمامًا لها، وهو يبحث عن مُجتمع أكثر مساواة. ويعتقد أصحابه أن على “إسرائيل أن تُطوّر نوعًا من الهوية المدنية يتجه نحو القيم الكونية للديمقراطية الليبرالية. ولا ينبغي أن تتميز فيها أية عرقية وجوديًّا أو سلوكيًّا”. وهذا الادعاء يرفضه الصهاينة وعموم الأحزاب “الإسرائيلية” الذين يدعون إلى دولة يهودية نقية، بينما الدولة مُتعددة الأعراق هي القاعدة وليست الاستثناء.
وعليه، ما يحدث في “إسرائيل” أدى إلى ظهور دراسات كثيرة تتحدث الآن عما بعد الصهيونية مثل الدراسة التي نشرتها كاثلين كريستسون على موقع “زد نت” في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2006 وهي محللة سابقة في (السي آي إيه) عن قرب نهاية الصهيونية. كذلك قال الكاتب “الإسرائيلي” يوسف أميناي إن بعض المؤرخين اليهود يقولون إن “إسرائيل سوف تتقلص لتصبح أكثر قليلًا من حكم ذاتي وأقل قليلًا من دولة”.
إن بعض الدراسات النقدية “الإسرائيلية” ترى أن المُكونات الأساسية لفكر “ما بعد الصهيونية” ينطوي على ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول يرى أنه بإنشاء الدولة “الإسرائيلية عام 1948 فإن هدف الصهيونية قد تحقق وأنه آن الأوان لبداية مرحلة جديدة في تاريخ إسرائيل يتم فيه تطبيع الآليات الداخلية والخارجية للبنية الصهيونية”. والاتجاه الثاني يرى أنه “بمعايير ما بعد الحداثة السائدة الآن في الغرب، فإن الصهيونية تُعتبر حركة فات أوانها، لأنها عاجزة عن الاستجابة لتحديات الحاضر”. والاتجاه الثالث فهو يركز على “أن الصهيونية منذ نشأتها الأولى كانت في طبيعتها حركة استعمارية، وهي مسؤولة بالقطع عن عديد من المظالم التي أوقعتها الدولة الإسرائيلية ذاتها التي نشأت عام 1948، ومن ثم إلى تشويه صورة اليهود في العالم”. ومن هنا يرى أصحاب الاتجاه الثالث أنه آن الأوان لانتهاج طريق آخر على الدولة “الإسرائيلية” أن تتبعه، إذا أرادت أن ترقى إلى مستوى المفاهيم والمدركات لحركة ما بعد الحداثة الغربية، التي من توجهاتها الأساسية التركيز على الأفراد باعتبارهم مواطنين في الدولة أيا كانت أصولهم.
أخيرًا، يَعتَقِد المؤرخ “الإسرائيلي” ايلان بابه، الذي يُعتبر يساريًّا وما بعد صهيونيًّا بارزًا، أن الانتفاضة الفلسطينية كشفت زيف ووهم المراهنة على تيار “المابعد صهيونية” فقط. فقد أضحت (المابعد صهيونية) عند اندلاع الانتفاضة تيارًا وهميًّا غير فاعل نتيجة التهميش الرسمي “الإسرائيلي”، ويضيف: “لقد عقروا قدرتها على الإخصاب، وقد يأتي يوم يكون فيه متاحًا، في ظروف مخبرية ملاءمة، تلقيح نطفتها في عملية إخصاب صناعية”. ويؤكد بابه، أحد أبرز المناهضين للصهيونية أن المجتمع الصهيوني قد تخلص في الوقت الحالي من “المابعد صهيوني” ويمضي قائلًا: “ابحثوا عنا بعد ثلاث أو أربع سنوات، عندما تصل الحقارة والشناعة والفظاعة البربرية التي أضحت مرتكزات السياسة “الإسرائيلية”، إلى درك من شأنه أن يدفع الكثير من الناس داخل البلاد إلى القول: طفح الكيل، لكننا لم نبلغ بعد هذه اللحظة.