عروبة الإخباري – كتبت آسيا حاجي زاده* – لقرون عديدة، وقلب الحضارة العالمية ينبض في الشرق العربي. ولا شك في أن الثقافة العربية لعبت دورا أساسيا في تقدم البشرية. فقد أثرى العالم العربي الثقافة العالمية بالإبداعات القيمة، والتي من دون العلماء والباحثين والمترجمين، لم تكن لتغزو الفضاء الفكري الفلسفي العالمي. ومن الإنصاف أن يعرف العالم العربي الحديث أسماء العلماء الذين كرسوا حياتهم للبحث في الأدب والثقافة العربيين، ووضعوا حجر الأساس لدمج الفكر الفلسفي العربي بالعالمي.
في تاريخ علم الاستشراق في القرن العشرين، يبرز اسم العالمة الأذربيجانية المتميزة في الدراسات العربية، الأستاذة الكبيرة في علم اللغة، عائدة ناصر إيمانجولييفا (1939-1992)، والتي بفضل بحوثها -جنبا إلى جنب علماء كبار، كالباحث في الأدب العربي والمترجم للقرآن الكريم أجناتي كراتشكوفسكي (1883-1951) وغيره من العلماء السوفييت البارزين- أطلعت العالم على اللغة العربية والأدب العربي الحديث والثقافة العربية.
كانت العالمة الموهوبة والناشطة الاجتماعية إيمانجولييفا أول امرأة أذربيجانية تعمل في مجال الاستشراق، وتشغل منصب مدير معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم. كما أنها المرأة الاولى الحاصلة على درجة الدكتوراة في علم اللغة، والباحثة الأولى في أدب المهجر في أذربيجان. وكانت عضوا في جمعية المستشرقين، وعضوا في مجلس التنسيق في بحث ودراسة الأدب الشرقي في الاتحاد السوفيتي. وضمن هذه المؤسسات، قدمت مساهمة هائلة على صعيد انتشار ودراسة اللغة والثقافة العربيتين والأدب العربي. وكونها ممثلا مشرقا لمدرسة علماء الاستشراق في بلدها، وأكاديمية مؤثرة في الأوساط العلمية، فقد مثلت أذربيجان في المؤتمرات والندوات العلمية المكرسة لقضايا البحث في تاريخ الأدب العربي والشرقي وعلم اللغة.
كان للأدب العربي في مطلع القرن العشرين دور أساسي في تقدم البشرية. ومن أهم مميزات الأدب العربي وابتكاراته، أنه يتصل اتصالا قويا بالعالم الروحي للإنسان، ويظهرالمثل العليا، وهذا ما يجعله يحيا ويستمر. ومن الجدير بالذكر أن إيمانجولييفا قامت بدراسة أدب المهجر الذي كان في بداية القرن الماضي. ففي هذه الفترة، برزت كوكبة كاملة من الكتاب والشعراء العظام، الذين حددت أعمالهم الأدبية مرحلة جديدة في تاريخ الشعر الرومانسي والنثر، وهو الأمر المهم جدا لفهم ومعرفة العالم العربي الحديث؛ ليس في أذربيجان فحسب، وإنما في البلاد الأخرى.
وكمتخصصة كبيرة في الأدب العربي الجديد وتاريخ النهضة الثقافية في البلدان العربية، سلطت إيمانجولييفا الضوء في أعمالها على التطور الفلسفي للرومانسية العربية الجديدة في بداية سبعينيات القرن الماضي، وكشفت عن البعد الإنساني في الأدب العربي الحديث. وبدراستها بشكل أساسي لمختلف جوانب أدب المهجرالذي كان في عشرينيات القرن الماضي، سعت في أعمالها العلمية إلى بيان الاتجاه المبتعد عن الأشكال التقليدية، وظهور الرومانسية في الشعر، والواقعية الناقدة في النثر، وكذلك اتحاد تقاليد ثقافة الشرق والغرب. وهو ما لعب دورا كبيرا في انتشار الفكر الفلسفي الحديث للعالم العربي.
كانت إيمانجولييفا أول العلماء في أذربيجان الباحثين بمنهجية عن التأثير المتبادل والروابط الأدبية المتبادلة بين الثقافات الشرقية والغربية. وبدراستها هذه، أولت العالمة الأذربيجانية القيم الإنسانية المشتركة اهتماما كبيرا، مشيرة إلى عوامل التقدم الثقافي. فقد قامت في أعمالها العلمية العديدة ببحث وتحليل تطور الأسلوب الإبداعي، وظهور اتجاهات أدبية جديدة. وهذا بدوره أوجد أرضية مهمة للبحث فيما بعد في الأدب العربي والشرقي عموما.
إن إبداع إيمانجولييفا العلمي غني جدا، ودائرة اهتمام أعمالها وبحوثها العلمية واسعة ومتعددة الأوجه؛ فهي ليست متعلقة ومرتبطة بعلم اللغة فقط، ولكن بعلوم اجتماعية إنسانية أخرى. وفي كتبها العلمية، انعكس إبداع الأدباء العرب الذين اتحدوا في “رابطة القلم” في أميركا، وحددوا عصرا كاملا في تاريخ الشعر والنثر العربي الجديد. ومن هذه الكتب: “ميخائيل نعيمة ورابطة القلم”، “جبران خليل جبران”، “شخصيات بارزة في الأدب العربي الحديث”. وبالإضافة إلى أعمالها الأساسية، قامت إيمانجولييفا بكتابة أكثر من 70 مقالة علمية، من بينها: “قضايا فقه اللغة العربية”، “قضايا علم لغة الشرق”، “قضايا الشرق: التاريخ والحداثة”، “دور الروابط الأدبية في تشكيل الأدب العربي الجديد”. كما كانت محررا علميا للعديد من الكتب والمقالات العلمية في الأدب الشرقي.
وإلى جانب عملها العلمي، اهتمت إيمانجولييفا بشكل كبير بالمجال التعليمي؛ فعملت أستاذة للأدب العربي وعلم اللغة في كلية الاستشراق بجامعة اذربيجان الحكومية، كما عملت أيضا في مجال الترجمة. وكانت مؤلفة مشاركة لكتاب “الإنسان والطائر”، وتحت إشرافها حصل أكثر من عشرة متخصصين على درجات علمية عالية.
لقد حققت العالمة الموهوبة المجد بعد أن شقت لنفسها، بتصميم وشجاعة غير عادية، طريقا في مجال العلم، فحظيت بشهرة كبيرة كشخصية علمية بارزة في الدراسات العربية، بفضل موهبتها العلمية، والتزامها، ونزاهتها، وقدرتها على الدفاع عن وجهات نظرها العلمية، وطبيعتها المفعمة بالحياة والنشاط، والهالة التي امتلكتها من الكمال والنبل؛ اجتمعت فيها بتناغم وتناسق سمات الإنسانية والمهنية والأنوثة.
إن اجتهادها وإخلاصها في عملها، وحصافتها وألمعيتها، والكاريزما التي تمتعت بها، ورؤاها الواسعة.. كل ذلك جعلها تحظى باحترام كبير في الأوساط العلمية، ومن قبل الجميع، إذ كانت مثالا حقيقيا للتفاني في سبيل العلم والخدمة المجتمعية، ومثالا للخير والنبل.
وكان لعائدة إيمانجولييفا المنتمية لعائلة نبيلة، مكانة مهمة في تاريخ الحركة النسائية. وسارت على نهجها وخطاها ابنتاها الاثنتان، السيدة الأولى في أذربيجان مهربان علييفا، رئيسة صندوق حيدر علييف، النائب في مجلس الأمة، وسفيرة النوايا الحسنة لليونسكو والإيسيسكو، والسيدة نرجس باشاييفا رئيسة جامعة موسكو الحكومية في باكو والاستاذة في علم اللغة، واللتان تواصلان المساهمة في الحفاظ على التراث الثقافي والعلمي لأذربيجان، من أجل تحقيق التواصل والتفاعل مع البيئة الثقافية والعلمية العالمية.
وفي العام 2006، في إطار التعاون بين صندوق حيدر علييف ومنظمة الإيسيسكو، تم ترجمة كتاب عائدة إيمانجولييفا “شخصيات بارزة في الأدب العربي الحديث” إلى اللغة العربية ونشره. وفي هذا الكتاب، كشفت إيمانجولييفا وأظهرت الصورة الكاملة للواقع الروحي والثقافي لتلك الفترة التاريخية، وخلود الروح العربية، من خلال عرضها لإبداع ثلاثة من رواد الأدب العربي: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني. ففي بحوثها قامت بتحليل القضايا الرئيسة في تقدم الأدب، وتقديم الفكر الاجتماعي والفني لتلك الفترة: الدور الاجتماعي للأدب، وقيمته التربوية، وترابط الأدب مع الحياة. وقد كان لهذا الكتاب صدى واسع بين العلماء العرب والمستشرقين البارزين في العديد من البلدان، الذين أشادوا بعملها المثمر الممتد لسنوات عديدة.
وفي المؤتمر الدولي لابن عربي “الشرق والغرب: القيم الروحية المشتركة والروابط العلمية الثقافية”، والذي نظمته الأكاديمية الوطنية للعلوم في أذربيجان وجمعية ابن عربي في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، وكذلك في المؤتمر الدولي “أدب شعوب الشرق” الذي نظمته الأكاديمية الوطنية للعلوم في أذربيجان، أجمع العلماء البارزون من مختلف البلدان على أن عمل إيمانجولييفا العلمي المتعدد الأوجه ساهم مساهمة قيمة في إثراء الخزينة العالمية للثقافة. فإيمانجولييفا ببحوثها العلمية، أسست اتجاها ومدرسة في الدراسات العربية. وهذه المدرسة في تقدم مستمر حتى الآن، وبحوثها هذه التي أثرت علم الاستشراق، هي اليوم كلاسيكية هذا العلم في دراسة الأدب العربي.
عائدة إيمانجولييفا معترف بها بحق واحدة من أهم الباحثين في الأدب العربي الحديث؛ ليس في أذربيجان فحسب، ولكن في غيرها من البلاد كذلك. فقد كرست العالمة الأذربيجانية حياتها كلها للدراسة والبحث في أدب وثقافة الشرق، ساعية للتعرف على العلاقة الدقيقة بين التشكيلات الفلسفية العميقة للماضي والحداثة. وتراثها الفكري الأدبي ما يزال يقوم بدور مهم في التقارب وتعزيز وتطور العلاقات بين أذربيجان والعالم العربي. ومما لا شك فيه أن عائدة إيمانجولييفا تمكنت من تحقيق إنجازات كبيرة في مجال العلم، وأنها باقية دائما في قلب وذاكرة شعبها.
*مراسلة وكالة الأنباء الأذربيجانية (أذرتاج) في الأردن.