عروبة الإخباري – لا يزال منذ أكثر من قرن ونصف القرن، السؤال مكررا، لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ وهذا السؤال مشروع، في ظل التراكمات والنكبات والتراجعات العربية، والإسلامية عموما، على أكثر، وكانت هناك الكثير من التحليلات، والقراءات، لما نحن فيه من تعثرات، إلا أن الأستاذ/ سعد محيو له تساؤل آخر مختلف عن هذا الإشكال، فقد رأى في كتابه: (مأزق الحداثة العربية.. من احتلال مصر إلى احتلال العراق).. أن السؤال المهم الذي نراه، هو “من المسؤول عن تعثر النهضة العربية أو مشروع الحداثة العربية العوامل الخارجية أو العوامل الداخلية؟”، هو قضية القضية في المنطقة العربية. ووراء هذا السؤال سبب مقنع، ففي ضوء الإجابة عنه، في هذا الاتجاه أو ذاك، كانت جملة قضايا تحسم دفعة واحدة، لا على الصعيد المفاهيمي، فحسب، بل على صعيد برامج العمل التنفيذية.
وحين وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001، بات هذا أيضاً هو السؤال الأول في الغرب، وتحوّل من مجرد مقاربة إستراتيجية إلى سؤال معرفي أيضاً. وهذا أخذ شكل “الانفجار الكبير” في الأسئلة الحارة الموجّهة كلها باتجاه المنطقة العربية والإسلامية: ” لماذا يكرهوننا؟”. ماذا بعد 11/9، وهل سيكون هناك 11/9 آخر؟ ما معنى أن يتكشّف لنا (للغرب) أن أقرب حلفائنا (الأنظمة العربية المعتدلة) هم في الواقع الأعداء الحقيقيون؟.
ثم من رحم هذه الأسئلة توالدت أخرى: من هم الأصوليون الإسلاميون، ما عقيدتهم وتراكيبهم؟ وهل هناك مؤامرة إسلامية عالمية ضد الولايات المتحدة والغرب؟.
ومن الأصوليين الإسلاميين إلى الإسلام نفسه: ما الخطأ الذي وقعت فيه هذه الحضارة التاريخية العريقة، ولماذا يفشل العرب والمسلمون في التأقلم مع قيم الديمقراطية والحداثة؟ هل العطب في داخل هذه الحضارة نفسها أم في الظروف الخارجية المحيطة بها؟.
بالطبع، الولايات المتحدة لم تنتظر الإجابة عن أي من هذه الأسئلة كي تبدأ تحرّكها، فهي شنّت حرب أفغانستان، حيث حلفاؤها السابقون أسامة بن لادن والأصوليون المتطرفون الأفغان، ثم أتبعتها بغزو العراق.
وخلال هاتين الحربين وبعدهما، كانت الولايات المتحدة تطوّر إستراتيجيتين اثنتين: الأولى شرق أوسطية، وتتمثل في التحرّك لتغيير الأنظمة العربية وإعادة تشكيل المنطقة برمّتها، والثانية عالمية، وترتكز على مبادئ الرئيس جورج بوش الابن، محور الشر، والحروب الاستباقية، والقوة الهجومية، وهي مبادئ يفترض أن تحل مكان مبادئ الحرب الباردة في الاستيعاب والردع.
لقد سبق لمارشال هودجسون قبل أحداث 11/9 بكثير أن حسم أمره بقوله في كتابه “إعادة التفكير في تاريخ العالم”: إن ثمة إجابة واحدة عن السؤال الذي يطرحه الغربيون حول الأمر الذي لم يسر على ما يرام، وهي أن البلدان الإسلامية، التي كانت ذات مرة قوية، لم تتجه نحو تقاسم التحولات الكبيرة التي شهدها الغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
والإجابة هذه لا تكمن حتماً في أي فشل داخلي سبق أن حدث في المجتمع الإسلامي، ولا تكمن، على وجه التأكيد، في أي ظلامية معينة في الدين الإسلامي.
أما الاضطراب في التطور، فحدث لا بسبب انحلال داخلي وإنما نتيجة أحداث خارجية لا سابق لها. لذا، وقبل أن يطرح السؤال المتعلق لماذا حدث ما حدث؟ يجب أن نفهم أولاً لماذا حقق الإسلام نجاحاً عظيماً طوال ألف عام”.
هذا النص لهودجسون يرضي كلياً الكثير من العرب والمسلمين، الذين يؤمنون حقا بأن الغرب، أو بالأحرى السيطرة الغربية على مقدرات أمورهم، هي السبب الرئيسي لتخلفهم أو تأخرهم عن الركب الحضاري العالمي، فلولا هذه السيطرة، لكان العرب الآن أمة واحدة موحدة ذات نفوذ كبير على السياسة العالمية، ولكان العرب استعادوا أمجادهم السابقة بوصفها الحضارة التي تحتل رقم واحد، أو على الأقل رقم اثنين، في العالم، ويلخص هودجسون نفسه هذه الرؤية بقوله إنه لو قام كائن من المريخ في القرن السادس عشر بزيارة كوكب الأرض، لاعتقد تمام الاعتقاد أن عالم البشر على وشك أن يصبح مسلماً.
وهو كان سيسند حكمه إلى الميزات الإستراتيجية والسياسية للمسلمين وإلى حيويتهم الثقافية وتفوقهم الاجتماعي.
وفي كل المناطق الأفرو-أورو-آسيوية، لم تواجه الهيمنة الإسلامية التي كانت محتملة مقاومة إلا من كتلتين ثقافيتين: الصينيون واليابانيون في الشرق الأقصى، والمسيحيون في الشمال الغربي.
في مقابل هذه المدرسة، هناك المدرسة الأخرى التي ترضي كلياً العديد من الغربيين، وتعتبر أن ثمة إجابة واحدة عن السؤال: “لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب”، وهي أن العطب يكمن في الداخل، في بنية الحضارة الإسلامية نفسها.
ونجد في الجانب المتطرف من هذه المدرسة من يشدد على أن الإسلام دين معادٍ بطبيعته للحداثة، وهو معارض ما من شأنه إطلاق حرية الرأي والاجتهاد والإبداع.
فكما اكتشف إدوارد سعيد في الاستشراق وفي الثقافية والإمبريالية، تستبطن الآراء والأفكار والمعرفة القوة والسيطرة والهيمنة. والعلاقة العضوية بين المعرفة والقوة تترجم نفسها في مهمات إستراتيجية وسياسية محددة. بيد أن ذلك حدث في توجهات المدرستين معاً، فحين يقول “الخارجيون”، أي أنصار المدرسة الخارجية، إن الغرب هو المسؤول الأول عن تأخر العرب، ترتسم على الفور ساحة المعركة بين الشرق والغرب، ويصبح السيف هو القاضي الوحيد بينهما. قد لا يعني هذا التحليل بالضرورة نسف كل أدوار العوامل الذاتية الداخلية، لكنه يضعها بالتأكيد في مراتب متأخرة (إن لم تكن الأخيرة) على سلم الأولويات.
وحين يقول “الداخليون”، أي أنصار المدرسة الداخلية، إن العطب يكمن في الحضارة الإسلامية أو في الدين الإسلامي نفسه، يتم إلقاء كل مسؤولية التأخر على العرب أنفسهم ويبرأ الغربيون من أي إثم ارتكبوه.
وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه أمام شتى أنواع النظريات العنصرية أو الاستشراقية، وأمام أشكال حروب الحضارات كافة .
عبد الله العليان /السؤال الذي لا يزال قائما لواقعنا!
14
المقالة السابقة