إن لم يكن المشي وراء نعشين متباعدين في المكان والزمان، أمراً حقاً بحذافيره التامة، وقابلاً للتصديق بصورة عيانية وملموسة، فليكن هذا الأمر من قبيل التخيّل الذي يملأ القلب والعقل معاً، أو على أقل تقدير من جنس الواقع الافتراضي المتخلق لبرهة قصيرة، تحت وطأة شعور إنساني مرهف بكثافة لحظة استثنائية نادرة، ودفق حس شخصي طاغ بوقوع خسارتين ثقيلتين في آن واحد. الأولى، تمثلت في رحيل المناضل العتيق يعقوب زيادين. والثانية، في الفاجعة الشخصية بترجل الصديق جمال أبو حمدان المباغت.
هكذا كانت حالتي الشعورية يوم الثلاثاء الماضي، عندما كنت أمضي مع آلاف المشيّعين، من منزل د. يعقوب زيادين في عمان إلى مسقط رأسه في السماكية بالكرك، مفعماً بتلك الحالة العاطفية المشتركة بين كل الذين ساروا وراء جثمان شيخ الشيوعيين الأردنيين إلى مثواه الأخير، موزعين بين مشاعر الفقد وألم الفراق، وبين آيات التبجيل والاحترام لمناضل عتيد لم تنكسر له قناة، ولم يقعد عن الكفاح السلمي من أجل أردن تقدمي ديمقراطي، وحركة تحرر وطني فلسطينية ناجزة.
وإذا كان يوم فوز د. زيادين، الأردني المسيحي الشيوعي، بمقعد القدس في برلمان العام 1956، أحد أكثر الأيام إشراقاً في حياته الطاعنة في العمر والجفر والماركسية، فقد كان يوم وداعه الباذخ لا يقل مجداً في سيرة صاحب هذه القامة الوطنية الباسقة، التي سار وراءها رجال دولة، ورفاق درب، ونساء وعمال ومثقفون، وأبناء عشائر ومخيمات، رفعوا رايات الحزب الحمراء، إلى جانب أعلام الأردن وفلسطين، تجسيداً فوق رمزي لحقيقة أن الراحل الكبير كان مناضلاً أردنياً فلسطينياً أممياً، بلا أي مجاز لغوي أو مبالغات لفظية.
وفيما كنا نمشي على مهل وراء الموكب المهيب، ثم نقف أمام الكنيسة القديمة مطولاً، في انتظار انتهاء مراسم الجناز وإلقاء كلمات المؤبنين، انتابني ذلك الشعور الشخصي الممض الذي استهللت به هذه السطور، وهو أنني كنت أسير أيضاً في جنازة الصديق العزيز جمال أبو حمدان، الذي رحل مع د. زيادين في ذات النهار، بعيداً عن محبيه، في ولاية أميركية نائية، لمّت شعث أسرته الصغيرة، وكانت على غير ما تشتهيه نفسه تراب مثواه النهائي.
لم أبح بهذا الشعور الذي تلبّسني طوال الساعات التي قضيناها تحت الشمس الربيعية الدافئة في القرية الكركية الوادعة، إلا في طريق العودة مساءً إلى عمان، حيث رحت أسأل نفسي المضطربة: هل في مثل هذا الإحساس إجحاف بحق الرجل الذي ودعناه للتو؟ وهل يستوي القول إنني كنت أمشي في جنازتين؛ الأولى على قدميّ، والثانية فوق جناح الخيال الذي غمرني بشدة، وأطبق عليّ إطباق الليلة الظلماء على ضوء شمعة تهتز مع هبوب الريح؟
لم أكن بحاجة إلى تبرير نفسي، ولا إلى طلب المعذرة من روح المناضل الأممي الذي مشيت وراء جثمانه، تقديراً لما ترمز له هذه الشخصية الوطنية المشتركة للأكثرية الكاثرة من الأردنيين والفلسطينيين. فقد كان رحيل جمال أبو حمدان أقرب ما يكون إلى خسارة محض شخصية، وإن كان فيه شيء مشترك بين سائر المثقفين، نظراً لطول أمد العلاقة الثنائية، وعمق محتواها القيمي في السنوات القليلة الماضية، امتدت منذ تعرفت عليه فتىً رومانسياً حالما وناشطاً في بدايات الثورة الفلسطينية، إلى أن بتنا نلتقي مؤخرا على نحو شبه يومي، نتبادل الهموم الذاتية والشؤون العامة، بما في ذلك شجون الثورة السورية، فضلاًَ عن مصاعب قِصر ذات اليد ورقّة الحال.
قبل أن ينقطع جمال عن زياراته الكثيفة فجأة، كان يكتفي بمهاتفتي بين الحين والآخر. كنت أعلم أن الدنيا ضاقت عليه كثيراً، جراء عدم مجاملته مع ما كان يراه حقاً وعدلاً، أو تسامحه فيما يخص عالم المُثُل العليا والمبادئ. إلا أنني عرفت بعد طول انقطاع أن أبو حمدان نفّذ فكرته بالهجرة إلى أميركا، وقد كان يغالب هذا الميل حيناً، ويغلبه في أحيان أخرى. كما لم أعلم بوضعه الصحي إلا من خلال حائط زوجته على “فيسبوك” عندما كتبت يائسة، أن جمال في وضع مرضي لا شفاء منه. وما هي إلا أيام معدودات حتى كان النبأ يسقط كالصاعقة على رؤوس ذويه وأصدقائه الكثيرين.
عيسى الشعيبي/المشي في جنازتين متباعدتين
11