في غضون أسبوع واحد هذا ما حصدته وزرعته طهران: احتفت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بفتح صفحة تاريخية مع الولايات المتحدة وتوصلت إلى إطار اتفاق نووي مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا وألمانيا. اشتغلت طهران على باكستان التي كانت أعلنت استعدادها للالتحاق بالتحالف الذي تقوده السعودية في شأن اليمن، وأتت النتيجة إعلان وزيري الخارجية الإيراني والباكستاني أنهما يريدان «تسهيل» الحوار اليمني. قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إن «توافقاً» حول الموقف من اليمن نجم عن لقاءات مع مسؤولين في سلطنة عمان وتركيا وباكستان، صاحبتي أهم جيشين في العالم الإسلامي. استقبلت طهران الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كان انتقد التدخل الإيراني في اليمن عبر الحوثيين وشرحت له كيف باتت إيران ذات وزن ثقيل في موازين القوى الإقليمية. أعلنت طهران عن توجه فرقاطاتها ومدمراتها البحرية إلى خليج عدن ومضيق باب المندب في مهمة تستغرق حوالى ثلاثة أشهر – الفترة الزمنية نفسها المحددة في 30 حزيران (يونيو) للتوصل إلى اتفاق نووي نهائي ينصّب إيران عملياً قوة نووية في الشرق الأوسط، مع وقف التنفيذ.
وللتأكيد، إن فتح الصفحة الجديدة في علاقة الولايات المتحدة مع إيران حدث تاريخي بامتياز لأنه يعطي طهران تماماً ما أراده حكم الملالي من إدارة أوباما منذ أن بدأ الرئيس الأميركي سلسلة التنازلات. فالاتفاق النووي سيعطي طهران ما أصرت عليه وهو: اعتراف الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بـ «حقها» النووي والانحناء أمام إصرار طهران على امتلاك القدرات النووية شرط موافقتها على تأجيل التفعيل. إنه يدشّن الجمهورية الإسلامية عضواً فخرياً في النادي النووي العالمي بتصفيق حاد من القوى الخمس النووية الرسمية مع «أم العروس» – ألمانيا –.
الإطار الذي تم الإعلان عنه الأسبوع الماضي كنقطة انطلاق للاتفاق المنتظر بعد مفاوضات الثلاثة أشهر المقبلة مهم بأبعد من الناحية النووية. إنه يلبي أيضاً مطلبين آخرين مهمين جداً لإيران هما: أولاً، الإقرار الأميركي العلني، والذي له نكهة التعهد الرسمي، بأن الولايات المتحدة تحترم حكم الملالي في طهران وتنظر بإعجاب إلى تمكنه من اقتناء القدرات النووية على رغم العزل والعقوبات، ولن تسعى أبداً للإطاحة بهذا النظام. فهذا نظام أصبح شريكاً للولايات المتحدة للسنوات العشرة المقبلة – على أدنى تقدير – لأنه الطرف المتعهد بالامتثال لما سيُتَفَق عليه من تحقيق وتفتيش للنشاطات النووية على أيدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. إذن، لبّى الرئيس باراك أوباما طلباً أساسياً لملالي طهران وهو الاعتراف العلني بشرعية النظام.
وثانياً، لبى الرئيس الأميركي الطلب الآخر المهم جداً لطهران وهو الإقرار بوزنها وبطموحاتها وأدوارها الإقليمية من دون تدخل من الولايات المتحدة. وهكذا انحنى أوباما أمام الإصرار الإيراني على عدم التدخل الأميركي في سورية والعراق ولبنان واليمن، كي يضمن إنجاز ذلك الاتفاق النووي الذي يريد أن يربطه التاريخ باسمه.
هي ذي الصورة إذاً: أولاً، باعتراف الرئيس الأميركي، أن إيران ستكون بعد 13 سنة جاهزة للتحوّل إلى قوة نووية عسكرية. ما قد يحول دون ذلك هو آلية مراقبة غامض ومطاط لم تحدد معالمه بعد، تقوم به الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعلاقة غامضة وغير محددة مع عملية رفع العقوبات الدولية في مجلس الأمن.
ثانياً، العقوبات الدولية ستُرفَع عن إيران في مجلس الأمن بالتزامن مع تنفيذ الالتزامات النووية – هذا في رأي إدارة أوباما. أما في رأي طهران وعواصم أوروبية، ستُرفَع العقوبات حال توقيع الاتفاق النووي. مهما كان التفسير قابلاً للتأويل، إن الدول المتأهبة للاستفادة من الاتفاق النووي جاهزة للحصاد – وعلى رأسها روسيا والهند والصين والبرازيل أي دول «البركس» التي طالما تهادنت مع إيران وأعفتها من المحاسبة في سورية وعندما انتهكت القرارات الدولية. وأولى المحطات ستتمثل في تسليم روسيا إلى إيران صواريخ S-300 المتطورة فور رفع العقوبات.
أميركياً، إن رفع العقوبات عائد إلى الكونغرس وليس فقط إلى الإدارة الأميركية. كثيرون في الكونغرس يعتبرون أن رفع العقوبات عن إيران بصورة استباقية هو بمثابة التخلي الاختياري عن «عصا» ضرورية للتأكد من صدق إيران في تنفيذ التزاماتها وتعهداتها كما أنه هدر لـ «الجزرة».
واقعياً، إن إدارة أوباما في تلهفها إلى رفع العقوبات الأميركية والدولية إنما تقوم عملياً بتمويل الطموحات الإيرانية النووية والإقليمية المتمثلة بخوض حرب سورية، ودعم الميليشيات العراقية، والمكابرة عبر الحليف اللبناني «حزب الله»، وتسليح الحوثيين في اليمن.
عملياً، أبلغت إدارة أوباما طهران بصمتها البليغ أنها لن تتدخل ولن تمانع الدور الإيراني الإقليمي وأبلغتها ميدانياً أيضاً أنها حليف الأمر الواقع في الحرب الأميركية على «داعش».
فعلياً، وبعد قطيعة رسمية لأكثر من ثلاثين عاماً، دخلت العلاقة الأميركية – الإيرانية التطبيع من باب تحالف الأمر الواقع ومباركة التوسع الإيراني في البقعة العربية والتعهد بالاعتراف بشرعية النظام في طهران.
بالطبع هناك أهمية لإعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن سلاح الجو الأميركي بدأ عمليات الدعم للطيران السعودي في غاراته على اليمن بدءاً بعملية التزويد بالوقود في الجو للمقاتلات في عملية «عاصفة الحزم» التي يشنها التحالف ضد الحوثيين. واشنطن تؤكد أن دعمها العسكري لـ «عاصفة الحزم» سيبقى «محدوداً» ولن يصل إلى حد المشاركة في الغارات بل سيقتصر على مساعدات استخبارية ولوجيستية في العمليات العسكرية. أتى هذا الدعم متأخراً، لكنه يبقى ذا فائدة، لا سيما إذا ساعد الدعم الاستخباراتي في تحديد المواقع العسكرية لتجنب الضحايا المدنيين وإذا ساهم في الإسراع في الحد من العمليات العسكرية والعودة إلى الحوار السياسي للتوصل إلى تسوية.
إنما من الضروري للقيادات العربية أن تطالب إدارة أوباما بأكثر وبإصرار لجهة الحزم مع إيران للتوقف عن الإمدادات العسكرية للحوثيين وللكف عن الانتشار البحري في خليج عدن وباب المندب.
الرئيس باراك أوباما دعا قادة دول مجلس التعاون الخليجي إلى «كامب ديفيد» لطمأنتهم في شأن الاتفاق النووي المنتظر. عمان خرجت عملياً عن البوتقة الخليجية العربية وباتت مُصنّفة «حيادية» بل أقرب إلى إيران في المعادلة. إنما الحدث اليمني قرّب الصفوف السعودية الإماراتية القطرية وفتح مجالاً جديداً للتعاون الخليجي – الخليجي ولصياغة استراتيجية نوعية جديدة ترقى إلى التحديات.
واشنطن ستزداد انقساماً في الأسابيع والأشهر المقبلة ليس فقط بين الجمهوريين والديموقراطيين ولا بين الكونغرس والإدارة فحسب وإنما أيضاً على صعيد الرأي العام. الأكثرية الأميركية لا تريد الحرب ولذلك سترحب بطروحات إدارة أوباما حتى لو انطوت على مواجهة مع إسرائيل في الشأن الإيراني. لكن الحزب الديموقراطي وأعضاء الكونغرس من الديموقراطيين ليسوا في وارد الدعم التلقائي لإدارة أوباما تحت أي ظرف كان. إنهم منفتحون على فهم أعمق لمعنى الاتفاق النووي مع إيران.
ما لا يلقى الاهتمام هو البعد الإقليمي للتدخل والتوسع والزحف الإيراني في الدول العربية. هذا نقص تتحمل الدول العربية مسؤولية شرحه وإبرازه. الإعلام الأميركي لا يتقبل الرأي العربي بسهولة ولا بصورة متماسكة، لا عبر المسؤولين ولا عبر المحللين السياسيين العرب. هذا خلل لا يجوز تجاهله، لا سيما أن لدى العرب وسائل لإصلاحه.
الأهم هو وضع استراتيجية عربية للعمل مع الكونغرس من دون الظهور بأن ذلك عداء مع الإدارة أو تطاول على صلاحياتها. هناك نافذة مهمة يجب عدم التلكؤ في الاستفادة منها. أميركا منقسمة، ولا عيب في المساهمة في شرح أبعاد الاتفاق النووي وتداعيات سياسة النأي بالنفس عن مغامرات إيران في الأراضي العربية التي تتبناها الإدارة الأميركية.
ثم هناك عنصر «داعش» و «القاعدة» فلا يجوز أن تتقدم الدول العربية بالتحالف مع الولايات المتحدة ضد «داعش» و «القاعدة» من دون إبراز أهمية المشاركة العربية في سحق هذين التنظيمين.
وكما جاء في مقالة في «وول ستريت جورنال» لكل من هنري كيسنجر وجورج شولتز اللذين شغلا عدة مناصب في الإدارات الأميركية السابقة، إذا لم يتم إدخال عنصر اللجم السياسي على الضبط النووي، أن اتفاقاً يحرر إيران من العقوبات يغامر بإغداق القدرات التوسعية عليها. وليس في هذا الأمر مزاح.