لعل أبلغ ما تقوله نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة، لنا نحن الذين لا يضعون كل مكونات الخريطة السياسية الإسرائيلية في سلة واحدة، هو أن التطرف المستشري في أوصال المجتمع المفتون بسحر “ديمونا” وبريق الانتصارات العسكرية، قد بات سيد الموقف بلا منازع؛ وأن العنصرية التي تفوح منها رائحة الاستعلاء العرقي الكريهة الذاهبة على طول الخط المستقيم، من اليمين البغيض إلى يمين أكثر صلفاً وعدوانية، هي الحقيقة التي من المقدر لها أن تحيا معنا ردحا من الوقت؛ فتبقى وتتمدد طوال هذه المرحلة المفتوحة إلى أجل غير معلوم.
غير جائز لأحد ادعاء العلم بأثر رجعي، أو الزعم أنه كان يتوقع مثل هذه النتيجة المفاجئة لكل الأطراف المخاطبة بها، بمن في ذلك بنيامين نتنياهو نفسه. وليس من حق كاتب له رأي مسبق بعدمية الرهان على إحداث تحول في المجتمع الأسرائيلي، القول بأنه سعيد بمثل هذه النتيجة الصادمة، حتى وإن كان من ذوي الجملة الثورية الغاضبة. فالأزمة التي ستتعمق على الفور، ستواجه الفلسطينيين كافة، ومعهم العرب والغرب، وكل من تدق على مؤخرة رأسه هذه النتيجة الفارقة.
ليس معنى ذلك أن افتراض فوز “المعسكر الصهيوني” الخاسر في هذه الانتخابات، كان من شأنه خلق فرصة سلام مواتية، أو كان من المقدر له فتح باب أوسع، أو تقديم حل مُرض للقضية التي تمسك بخنّاق شعوب ودول هذه المنطقة. إلا أن نجاح اليمين المتطرف على هذا النحو الكاسح، زاد من حدة الأزمة، وعقّدها على نحو أشد مما كانت عليه، وألقى بكثير من المصاعب على السلطة الفلسطينية، وفاقم من شدة المخاطر والتهديدات المحدقة بقطاع غزة، وأفقد معسكر الاعتدال العربي كل ما تبقى لديه من هامش للمناورة.
على هذه الخلفية، لا محل للمكابرة، ولا الادعاء بأن صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف لم يخيّب الآمال، ولم يزد من جرعة المرارة، لاسيما لدى “عرب 48″، وإن كان ينبغي عليه ألا يشيع حالة من اليأس، وألا يؤدي إلى رفع درجة الإحباط إزاء جدوى المشاركة في الانتخابات العامة، باعتبار أن النجاح النسبي للقائمة العربية المشتركة، لن يمكن النواب العرب من لعب دور العنصر المرجح بين شقي المعادلة السياسية في الكنيست، فيما لو أتت نتائج الانتخابات متعادلة.
ومع الثقة بقدرة الجماهير العربية داخل الخط الأخضر على التعاطي مع مخرجات هذه الانتخابات بالكفاءة التي عرف بها المنزرعون في أرضهم، في مقاومة القوانين الفاشية والحفاظ على الهوية، إلا أن الخشية تظل كامنة على الجانب الآخر؛ أي على الفلسطينيين في الضفة والقدس والقطاع، من الوقوع ضحايا لمشاعر الفزع إزاء تغول أقصى اليمين، واندفاعه المحتمل نحو مزيد من العدوانية، والإفراط أكثر في سياساته التوسعية، في هذه المرحلة التي تكاد فيها قضية الشعب الفلسطيني تصبح خارج نطاق الاهتمامات الإقليمية والدولية، وتهبط إلى ذيل قائمة المنشغلين بمواجهة تداعيات حروب داخلية دامية، أفقدت القضية المركزية أولويتها على الأجندة العربية.
وبالمحصلة غير النهائية لهذه الانتخابات المثيرة لكل الهواجس والتحسبات المشروعة، يمكن القول إن أزمة إسرائيل مع نفسها سوف تزداد عمقاً، وإن صورتها الفظة لدى أقرب حلفائها الغربيين ستشتد فظاظة، إن لم نقل إنها ستخلق لها فيضا من المشكلات المضافة، بما في ذلك وصمها بالعنصرية. كما أن من المقدر لعنجهية اليمين المتطرف، وميله الغريزي إلى التخندق في متراسه العقائدي، أن يضعف من رصيد إسرائيل المتبقي لدى الرأي العام الغربي، وقد يعزلها، ويضعها أمام مقاطعات اقتصادية وسياسية غير مستبعدة.
في المعركة الطويلة مع دولة اليمين الفاشي، التي تبدو على هيئة مصارع من الوزن الثقيل، يتطلب الأمر مواجهة التغير الجديد برباطة جأش، ومنازلة هذا الملاكم المتوحش من دون تهور أو فقدان السيطرة على النفس، طالما أنه يصعب إسقاطه بالضربة الفنية القاضية؛ وإنما يمكن النيل منه بالنقاط الفنية فقط، خصوصاً وأن هذا المصارع المتغطرس راح يبالغ في الاعتداد بنفسه كثيراً، ويزدري القانون الدولي، ويستصغر شأن أعدائه، الأمر الذي سيفقده التوازن في أي لحظة مواتية، ويوقعه أرضا على خشبة الحلبة، حتى وإن بدا ذلك مستحيلاً في هذه الآونة، واستغرقت الجولة وقتاً أكثر مما كان مقرراً لها في البداية.