كتبت في هذه الزاوية الأسبوع الماضي عن خطباء الجمعة في مساجدنا، وقلت فيما قلت إنهم لا يقومون بواجب إعداد خطبتهم، وإنهم يتناولون أبسط الأمور في ديننا الحنيف، وذكرت أن خطيبنا غفر الله لنا وله كان موضوع خطبته المكتوبة “كيفية أداء الصلاة”، وراح يشرح الركوع والسجود وتكبيرة الإحرام ووضع اليد اليمنى على اليد اليسرى، وهكذا كان، في مسجد آخر كان موضوع خطبة إمامنا “فروض الوضوء”، وأسهب في شأن المضمضة والاستنشاق ومسح شعر الرأس والترتيب والموالاة، وخطيب جمعة حضرت خطبته كان موضوع خطبته أن الرسول مشعر مستدلا على ذلك بحديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وخطيب آخر موضوع خطبته (الزنا) وأسهب في الموضوع إلى أن قال “إن رجلا ذهب إلى الرسول عليه السلام وقال له: يا رسول الله أنا زنيت فطهرني، ورددها ثلاثا إلى أن أمر الرسول عليه السلام برجمه” فهل هذا الحديث من حيث صحته ودقته يتناقض مع قول الحق عز وجل “والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة.. الآية” سورة النور.
والحق، إنني رحت أستفسر من عقلي هل هذه مواضيع خطبة جمعة؟ أم أن مكانها حلقة درس بعد صلاة العصر أو المغرب وليس من على منابر الجمعة، إلا قضية الزنا فتلك قضية خطبة يجب الإعداد لها جيدا.. رحت أسأل نفسي أين معهد تدريب وإعداد أئمة المساجد وخطباء الجمع والأعياد والنوازل والظواهر الطبيعية؟ وهل مناهج التعليم العام لا تعلم الأجيال شروط الصلاة وأركان الإسلام، وأركان الإيمان، وفروض الوضوء وغسل الميت وكيفية أداء صلاة الجنازة وغير ذلك من قواعد الدين الإسلامي الحنيف.
والله العظيم، إن معظم خطب الجمعة لم يعودوا يجذبون المصلين، رأيت في عدد من المساجد التي ترددت عليها أن كل من تمكن أن يجلس إلى جوار الحائط ليسند ظهره ويمدد رجليه وكأنه ليس في مسجد للعبادة والتبتل، رأيت البعض من المصلين يغالبهم النعاس لأن الخطيب لم يأت بموضوع يشدهم ويحثهم على التقوى ويمس شؤون حياتهم ومستقبل أولادهم من بعدهم.
(1)
لا جدال بأن الخطابة موهبة وعلم وفن، وأن عمق المعرفة وسعة الاطلاع والثقافة تزيد من هيبة الخطبة والخطيب، كان الشيخ إسماعيل الكيلاني حفظه الله وزاده علما يخطب الجمعة في مسجد العسيري وكان يُبكي المصلين من خشية الله عز وجل من عظمة الموضوع الذي يتناوله وأسلوب عرضه لذلك الموضوع، وكان الشيخ طايس الجميلي غفر الله لنا وله ومتعه بالصحة والعافية لا تجد مكانا في المسجد الذي كان يؤدي فيه خطبة الجمعة ويؤم الناس لصلاتها ويجهش الناس بالبكاء من خشية الله والشيخ القرضاوي حدث ولا حرج.
هذا لا يعني أنه لا يوجد في منزلتهم أحد من الخطباء بل قد يكونون أكثر منهم تأثيرا في جمهور المصلين لكنني ذكرت من صليت خلفهم وحضرت منابر خطبهم فمعذرة من الذين لم أذكرهم.
(3)
إن الخطابة كما قلت هي موهبة وحسن اختيار الموضوع وبلاغة لغة الخطبة وأسلوب الأداء الأمر الذي يمكِّن الخطيب من التأثير على نفس المتلقي، وقد عرّفها الفيلسوف اليوناني أرسطو بأنها “قوة تتكلف لإقناع الممكن” وعرفها الفيلسوف العربي ابن رشد بأنها “قوة تتكلف لإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء المنفردة”، وهناك تعريف آخر يقول بأنها “فن مشافهة الحضور للتأثير عليهم واستمالتهم”.
لن أستعرض تاريخ الخطابة على مر العصور فليس ذلك هدفي، لكنني أذكر أن الخطابة في العصر الجاهلي كان لها تأثير في سير الحياة، أذكر من أولئك، خارجة بن سنان خطيب داحس والغبراء، وخويلد بن عمر الغطفاني خطيب يوم الفجار وقس بن ساعدة الإيادي وغيرهم.
وبرز خطباء في صدر الإسلام لهم قوة التأثير في الناس لقوة البيان وحسن الأداء والمعرفة الشاملة بموضوع الخطبة وأحوال الناس وما يحيط بهم من خير أو شرور.
(4)
في الأسبوعين الماضيين كان حديث العالم عن “حقوق الإنسان” ومن ضمن تلك الحقوق حقوق المرأة، وكم كنت أتمنى أن يسمعنا خطباء منابر الجمعة عن حقوق المرأة في الإسلام، وأن يستعرضوا حقوق المرأة في الديانة اليهودية المحرفة، وحقوقها في المسيحية الأوروبية إبان عصر النهضة ويقارنون حقوق المرأة في سياق تلك الأديان، ولكن مع الأسف اتصف معظم رجال المنابر إلى تسطيح خطبة الجمعة وراح معظمهم يتحدث عن صغائر الأمور.
والسؤال على ماذا يدل ذلك؟ لا جدال بأنه يدل على أن خطيب الجمعة لا يقوم بواجبه العلمي فيستسهل الأمر ويتناول أسهلها التي لا جهد فيها ولا اجتهاد ولا روح، إنها خطبة موظف وليس خطبة فقيه يرشد الناس ويحضهم على أحسن الطرق إلى النهوض بالمجتمعات إلى أعلى درجات الرقي والتآلف والمحبة من أجل أن تنتصر الأمة في كل ما يعيق سبيلها.
آخر القول: على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية دور يجب أن تؤديه تجاه الارتقاء بخطباء الجمعة وتدريبهم وتثقيفهم في الدين ومسار الحياة والله ولي التوفيق.
د.محمد المسفر/خطبة الجمعة بين التسطيح والتشويه لمقاصد الخطبة
20
المقالة السابقة