منذ أن بدأت الأزمة الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين تلوح في أفق العاصمة والمحافظات، كنت على مدى الأشهر الطويلة الماضية أحاول فهم هذه الأزمة، والتعرف على منطقها الذاتي الملتبس في عين المراقب من الخارج؛ وذلك من خلال تنقّب الأخبار المنقولة، ومطالعة السجالات المنشورة، ناهيك عن التحليلات والآراء المتابعة عن قرب لما بدا، أول الأمر، أنه مجرد خلافات فكرية ومنافسات شخصية تحت سيطرة الجماعة، المشهود لها بالقدرة على احتواء التباينات الداخلية وتسويتها بعيداً عن الأنظار.
غير أنه بعد أن باتت الأزمة قائمة على رؤوس الأشهاد، وتحولت إلى قضية رأي عام، وانتجت حالة انقسام علني، ولو على مستوى قمة الهرم، فقد أصبح من الجائز لكل ذي وجهة نظر، أن يدلي بدلوه في بئر هذه الأزمة التي لا سابق لها في تاريخ إحدى أهم وأكبر جماعات الإسلام الحركي في المملكة، خصوصاً بعد أن انتزع تيار الإصلاح زمام الموقف من بين أيدي المؤسسة القيادية المحافظة، ونال ترخيصاً قانونياً بذلك.
كان أكثر ما يلح على الذهن من أسئلة بسيطة في الآونة الأخيرة، هو: لماذا ترفض الجماعة تصويب وضعها القانوني؟ وما الضير في تسوية أي عوار محتمل في ترخيصها القديم كجمعية دعوية تتبع للمنظمة الأم في مصر منذ سبعين عاماً؟ ولماذا تعتبر هذه الجماعة، التي تجاوزت صفتها الدعوية وتحولت إلى العمل السياسي، أن من حقها أن تظل خارج القانون، حتى لا نقول فوق القانون؟ وهل لها دالّة استثنائية على الدولة التي احتضنتها في أوقات الشدة، كي تواصل كل هذا الدلال غير المفهوم، وتميز نفسها عن غيرها من الأحزاب المرخصة؟
ما تيسّر لي من قراءات كثيرة، وحوارات قليلة، جعلني أكثر فهماً من ذي قبل، لفحوى الأزمة الداخلية الإخوانية، من دون أن يلغي ذلك لديّ علامات التعجب العديدة حول أسباب تفاقم هذه الخلافات العاصفة، وانفجارها على هذا النحو المدوي؛ ناهيك عن إدارتها بروح “غير رفاقية”، في غضونها، تبادل قادة كبار ومؤسسون مخضرمون اتهامات قاسية، من طبيعة تلك الاتهامات التي درج “الإخوان” على قذفها في وجوه كل من اختلف معهم في الرأي، أو عبّر عن موقف نقدي لسياساتهم، أو عارض موقفاً من مواقفهم الإشكالية.
كان كثيراً وصادما للمهتمين بالشأن العام من خارج أطر الجماعة، أن يستمعوا إلى أعضاء في مجلس الشورى أو المكتب التنفيذي، يكيلون تهمة الخيانة لأناس من رهطهم، ويرمونهم بشبهة التآمر مع الدولة عليهم، وكأن هذه الدولة التي تربوا في ظلال شجرتها الظليلة كائن خارجي، هبط بقوته الغاشمة عليهم حديثاً. فقد بدا خطابهم (وهم الفرع من ذات الأصل) منسوخاً من خطاب الجماعة الأم في مصر، بعد أن دالت دولتهم، وراحوا يمطرون النظام المصري الجديد، ومخالفيهم، بأقذع الأوصاف وأشدها فظاظة في الأدب السياسي.
نحن، في واقع الحال، لسنا في موضع النصح الذي فات أوانه، لكل جماعات الإسلام السياسي التي لا تقبل النصيحة أساساً وتتعالى عليها. إلا أنه يمكننا القول إن الحركة أو الحزب، ومهما اتسعت صفوفهما، لن يتمكنا من النجاح في نهاية مطاف قد يطول وقد يقصر، إذا لم يحظيا بقيادة معتدلة، تكون قادرة على التكيّف مع التطورات، والتماهي مع البيئة الحاضنة، تماماً على نحو ما تقصّه علينا سيرة سائر الحركات والمنظمات الحزبية عبر التاريخ المعاصر. ولعل سجّل حركة “الإخوان” المصرية، ذات العمق التاريخي والامتداد الشعبي الهائل، خير مثال على ذلك، وأقرب مثال يمكن الاتعاظ به.
والحق أن التطورات المتلاحقة في المشهد الإقليمي، على مدى السنوات الأربع الماضية، كانت بمثابة قوة الدفع الأشد أهمية في ما جرى للحركة الإسلامية التي تصدّرت “الربيع العربي” في البداية، وتسيدت الموقف، قبل أن تؤدي سياسات الاستئثار والإقصاء و”الأخونة”، ناهيك عن الافتقار لسداد الرأي والحكم، إلى حدوث كل هذه التحولات العريضة التي أودت بحكم المرشد، وأوصلته إلى مربع المنع والحظر، ووصمته بتهمة الإرهاب؛ فيما ظل “الإخوان” ينكرون مغزى هذا التبدل العميق، ويتصرفون على أساس أن شيئاً لم يكن، وفق ما بدت عليه فصول حكاية “الجماعة” لدينا مؤخراً، من المطالبة بالشراكة في الحكم، إلى طلب الاسترحام والتلطف في معالجة الأزمة.
عيسى الشعيبي/المشهد الإخواني عن بعد
12
المقالة السابقة