عروبة الإخباري –
(تدحرج رأس المغنّي حزيناً،
على طفلةٍ كالفراشة،
وشوشت النهر شيئاً من الحبِّ،
والرعشة المنتقاة من العشق،
هذا دمي راعشٌ كالجداولِ،
ينفر من ودج القادمين،
إنّها هامتي…
فاعصروها على جذع زيتونةٍ،
وانثروها بسبع بلادٍ
وصيحوا…
أجيء على طبقٍ من دماء…
ويكتظّ بالحزن صوت المغنّي…).
(أما أنا فلا أخلع الوطن) ديوان قديم للشاعر الناقد عبدالله رضوان، أصدره عام 1979، وأعاد التذكير به في طبعة 2014، مستنسخاً فترةً مهمّةً من دور مصر السياسي، كانت هاجس مثقفي السبعينات وشعراء المرحلة، الذين وجدوا تقاطعاً بين اليوم والأمس.
يوظّف رضوان الموروث السياسي العربي (أما أنا فلا أخلع صاحبي)، متمسّكاً بفكرة (الوطن الأصيل)، وهو توظيف ظلّ يرمي منه محبته للأردن، متنقلاً بين مصر والشآم، إذ يبث الأولى انكسار الحلم و(التخلي عن الدور)، والثانية وجع هاتيك الأيام الذي يبدو أنّه يتجدد اليوم.
يتضح من الديوان قلق الشاعر وحزنه لسقوط (صنوبرة كانت تساند وجهنا العربيّ،…)، وفي ذلك كان تعليل رضوان صارخاً في علاقات الدول وبناء المصالح، وهو ما جعله يلوذ بالشام، حزيناً لماء النيل، متمسكاً بالشهقة الفلسطينيّة لكلّ هذا الذي يحدث، في عتاب طويل يحمل بذور السياسة، ويؤشّر على التضحية بالموقف والارتهان للمصالح.
في الديوان تكثر التصريحات وقراءة الأحداث والتشبيهات بنت الموقف السياسي في أسطر ظلّ خلالها الشاعر (يتكاثر وحيداً)، (رافضاً وجع الخيانة)، يحلم بعاصفة تمسح كلّ هذا الهم، ويلحظ القارئ في هذه الأسطر عدم ذهاب رضوان إلى التواري خلف الرمز، وربما كان ذلك لصراحة المرحلة وعظم تأثيرها على النفس.
في الديوان ثمّة قصيدة لرضوان أسماها (أحاديث مرفوعة إلى سيّدتي الشمس)، كتبها عام 1977، وهي أحاديث في حضرة الشمس- على دلالة العجز والقدرة- وربما كان في الحديث المرفوع شيء من التواتر، وفي ذلك تتزايد الأمنيات ويكثر الغزل.
ربّما- وليست ملزمةً- كانت الشمس ملمحاً لدولة كبرى ظلّ يغازلها الخائف، أو سيّدة تزرع الخنجر في قلب الشاعر- الذي هو ضمير جمعي- إذ يُستشفّ من دوال الأسطر ه (استسلام) الشاعر أمام هذه السيدة:
(هل يقدر هذا الطير المنتوف الريش أمام حبالك،
أن يهرب في الغابات بعيداً عن مرماك،
ويمضي؟!)
(هل تتراجع عينا بدويٍّ عن ناقته وسط
الصحراء؟
انتظريني..
لن أنساك،
وكيف تراني أنسى هذا الخنجر،
مزروعاً في القلب كجرحٍ عذب؟!).
لكنْ، ألا يمكن أن تكون الشمس بكلّ بهائها القدس أو فلسطين، بدليل الشهداء والصليب، وهما متممان لهذه التي ينسى الشاعر لأجلها كلّ سيوف بني ذبيان وتعاويذ القرية وطبول بني تغلب: (وأمزّق كلّ صحائف هذا التاريخ الممتزج بطعم لهاثي، إنّي أعلن منذ الساعة، أنّي قرفٌ من طعم الخوف المتخثّر بين ثنايا جسدي،…).
(لينا.. وأغنيات على هامش المعسكر) ثالثة قصائد الديوان، وفيها رسم رضوان صورة حبلى بالمواجع والصبر واعتياد الموت، نابذاً صورة المختار البليدة و(الخليفة) الذي ضيّع المنصب، معلناً أنه يخرج على البيعة والصلح، وفي هذه اللافتات ينبض الشاعر بحلم الصغار في قاعة الدرس، ويسخر من رسم صورة التفاح الذي لم يذقه وجيله، وهو ما يحيله إلى سرقة العدو خيرات البلاد. لكنّه لا يفتأ يحلم ويموت ليحيا الحلم. ولا ينسى بين هذا وذاك أن يحزن لسراب النيل، وهو ما يرمي منه إلى حزنه على بعد مصر.
(يقولون صلحاً،
فأصرخ موتاً، أنا خارجيّ….).
(وأمضي على شفّة البندقيّة، أهتف،
من يكبر الآن؟
جرحي،
أم الزمن الصعب،
أم موطني..
أم بلادٌ تفيّأتها موطناً
فاستحالت عذاباً…
على ساعةٍ في الجدار،….).
يختم رضوان بـ(بانوراما) كتبها عام 1976، وطوّف فيها بكلّ الوطن المذبوح، ومعاناة المنفى، والحلم بتجاوز الاعتيادي إلى غير المألوف، ليحلم ويحلم معه كثيرون، لكنّه نوع من التحدي الذي بات أصيلاً في نفوس الملايين:
(إني أحلم هذي الليلة أنّ الكفّ
تناطح مخرز
تتقيّح هذي الكفّ كثيراً..
تتقرّح.
تندمل بها طبقاتٌ من قيحٍ وغبار.
لكنّي أحلم أنّ جداراً من لحمٍ مات
التفّ على خصر المعصم).
ولا ينسى الشاعر أن يوقّع ديوانه بـ(سقوط النسر):
(أنا آخر العاشقين،
وأوّل من يحملون الصليب…
أنا لست بالشاهد الأزليّ،
ولكنّهم أوثقوني على وتدٍ في الجنوب،
وقالوا: تطلّع،
كانت بلادي تسير على جدول الدّم
والشهداء،
فقلت انزلوني على الأرض،
أشتمّ حضن بلادي…
فإنّ التي تصلبون ابنها،
وإنّ التي تُرزقون بها..
وإنّ التي سافر المتوسّط
في نحرها،
تسمى بلادي…).