يدعي كاتب هذه السطور، بكل تواضع، أنه قد يكون أول من وصف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأنه جمال عبدالناصر الثاني، في مقال عنونه بهذه التسمية نصاً، قبل أكثر من عام ونصف العام، ونشره على هذه الصفحة؛ وذلك حين شاهد عبر البث المباشر من ميدان التحرير، جماهير الثورة المصرية الثانية ترفع صورة وزير الدفاع السابق، جنباً الى جنب مع صورة الزعيم المصري الأسبق، رغم إدراكي أن كلا منهما ابن لمرحلة تاريخية مختلفة.
وإذا كانت هناك شك ضئيل في صحة هذه التسمية آنذاك، فقد تتالت الوقائع والحقائق والتطورات المصرية، لتعزز صحة هذا التقدير المبكر عن أهلية الجنرال القادم من المؤسسة العسكرية المصرية، شأن سابقيه، لتولي قيادة البلد العربي الأكبر، ولتؤكد على جدارته بتجديد صورة الزعيم المصري الراحل، ذي القامة الشامخة والمكانة المرموقة في وجدان ملايين العرب والمصريين.
اليوم، يتضح أكثر من أي وقت مضى أن السيسي يحمل الكثير من صفات عبدالناصر الكاريزمية، لعل في مقدمتها خاصية المضاء في مواجهة التحديات المصيرية، وامتلاك روح المبادرة والإقدام، وفق ما تجلى عليه الأمر عندما أطاح بحكم جماعة الإخوان المسلمين عن عرش مصر، وفي تصميمه على شق قناة سويس ثانية في غضون سنة واحدة، وفي دعوته التي لا سابق لها إلى ضرورة إصلاح الخطاب الديني، ناهيك عن مقاومة الضغوط الأميركية الفظة، ومحاربة موجة الإرهاب المتفشية في سيناء والوادي بنجاعة متزايدة.
أهم اختبار تعرضت له قيادة السيسي هو الشريط المصور لذبح 21 مصرياً في ليبيا، في مشهد فظيع، رمى فيه الإرهابيون بقفاز التحدي في وجه القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية، لدفعه دفعاً نحو مغامرة حربية تستهلك طاقات الجيش الذي يواصل معركته المضنية فوق رمال سيناء، أو الإحجام عن ذلك، مع كل ما يعنيه مثل هذا النكوص من تقويض لمصداقية الرجل، وتضييع لهيبة نظامه، وكسر لروح مصر المليئة بجراح سنوات الفساد والفقر والتهميش، ومن ثم إحباط الوثبة التنموية الجارية على قدم وساق.
في الاجتماع العاجل لمجلس الدفاع المصري الأعلى، حيث مصنع القرارات الاستراتيجية المهمة، دار النقاش بين من رأوا أن في المجزرة المصورة فخاً ينبغي تجنبه، وبين من اعتقدوا أن الأولوية هي للحرب ضد الإرهاب الداخلي، ولم يتم بت الأمر إلا عندما أعلن السيسي موقفه، لصالح شن غارة جوية جراحية، تكون فاتحة لسياسة تدخّل أوسع مدى وأطول اجلاً، ضد الجماعات التي ترفع الرايات السوداء، وتعمل على تحويل ليبيا من قوة إسناد رديفة للدولة العربية المركزية إلى بؤرة تهديد لدول الجوار كافة، لاسيما الدولة المصرية.
وأحسب أنه لم يكن من مفر أمام السيسي، وهو يستمع إلى آراء كبار الجنرالات من حوله، من الاقتداء بالسابقة الأردنية الشجاعة، بالثأر لدم الطيار الشهيد معاذ الكساسبة من دون تردد، ومن ثم تجاهل كل المحاذير المتعلقة بأمن مئات آلاف المصريين العاملين في ليبيا؛ أي منع تمرير هذه الجريمة التي تخاطب شعباً قوامه تسعون مليون إنسان، شعروا جميعاً بالإهانة، وامتلأت صدورهم بالغضب الذي كان من المرجح له أن ينفجر لاحقاً في وجه صاحب الأمر، فيما لو أنه خفض للإرهاب جناحه.
هكذا، أتت الضربة الجوية لقواعد الإرهاب في درنة الليبية، كبرهان إثبات قاطع على مضاء عبدالفتاح السيسي، وعلى امتلاكه لسمات الزعامة المتجسدة في هيبة جمال عبدالناصر، ناهيك عن تمتعه بحسن الرؤية والروية. وهو أمر قد يتحقق بسرعة، إذا بادر بالدعوة إلى قيام تحالف عربي لمقاومة الإرهاب، بأجندة تختلف عن أجندة التحالف الدولي ذي الأولويات الأميركية الملتبسة، حتى لا نقول الغايات المتماهية مع التطلعات الإمبراطورية الإيرانية. وهذا هو واجب مصر، وهذا هو دورها دون غيرها.
إن تمثل السيسي لدروب عبدالناصر في أخذ الزمام من دون تهيّب، والإمساك بصولجان الزعامة العربية عن استحقاق وجدارة، وضرب قواعد الإرهاب في محيط مصر الحيوي بجرأة؛ كل ذلك من شأنه أن يبرهن على استعادة “الكنانة” للروح الناصرية المقاتلة، وأن يعجل من رفع مكانة مصر العربية، ويؤدي إلى استرداد دورها الإقليمي بسرعة مضاعفة، وبالتالي إعادة تغيير معادلات القوة المختلة في الشرق الأوسط كله.
عيسى الشعيبي/عودة الروح الناصرية المقاتلة
24
المقالة السابقة