أصبح موضوع مواجهة الارهاب ومحاربة التطرف حديثا يوميا للإعلام والمثقفين والسياسيين و للمواطن العادي. وما أن يكون هناك لقاء سياسي حتى يتضمن البيان الإشارة بأقوى العبارات إلى أن المنطقة العربية تمر بظروف صعبة، وتواجه تحديات كبيرة، جراء الحروب الأهلية في المنطقة من جانب، وتوسيع الحركات الإرهابية المتطرفة لنشاطاتها، من جانب آخر.
وبالأمس دعا الملك عبد الله الثاني خلال لقائه الرئيس التشيكي إلى ضرورة أن يستعيد العرب والمسلمون دينهم الذي اختطفه المتطرفون، ليعود مرة ثانية ليؤكد لرئيس مجمع الفقه الإسلامي السوداني، ووزير الداخلية اللبناني، على أهمية التعاون بين الهيئات والمنظمات الإسلامية لمحاربة الفكر المضلل، وتعرية اصطحابه. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحرب الإيديولوجية على التطرف و الارهاب هي الحرب الطويلة المدى، والتي سوف تستغرق سنوات عديدة ،فإن السؤال يبقى قائما: من يبادر إلى العمل؟ ومتى؟ وضمن أي برنامج؟
بداية لا بد أن تأخذ الدول ممثلة في جانبها الرسمي موقفا واضحا من الفكر التكفيري بالتوافق على “ما هو حالة الاعتدال”، و أن تدعم ذلك بالتشريعات المناسبة. و هذا يتطلب من كل دولة عربية أن تصدر بيانا أو وثيقة باسم “وثيقة المشاركة والتسامح والمساواة” يقرها البرلمان، و تصبح وثيقة شبه دستورية. وتتضمن مجموعة المبادئ و الأفكار التي يراد التوافق عليها و الإلتزام بها قانونيا ووطنيا، والتي وردت أجزاء كثيرة منها في “رسالة عمان” و “وثيقة الأزهر حول الدولة الوطنية” و الجوهر في الوثيقة المرجوة يتضمن الآتي:
أن الحرب والسلام أو القتال والجهاد هو حصرا من مسؤولية الدولة، ولا يقبل إعلانه أو ممارسته من الأفراد أو الجماعات.كما أن المواطنة والالتزام بالقانون هي المرجعية الوحيدة المقبولة للمطالبة بالحقوق وأداء الواجبات. وان دعوة غير المسلمين إلى الإسلام أو الجزية أو القتال آمر انقضى بانقضاء العهد الإسلامي الأول، وأصبح اتباع جميع الديانات متساويين أمام القانون يدفعون الضرائب التي تقررها الدولة.أن التكفير الذي يصدر عن فرد أو حزب أو جماعة مسألة انتهت وليس لها وجود. ومن يكفر شخصا أو جماعة أو مجتمعا فذلك يمثل اعتداء عليهم، التزاما بقول الله تعالى” لكم دينكم ولي دين” ،وقول الرسول الكريم “من كفر مؤمنا فقد كفر”. إن الخلافات التاريخية الماضية بين أصحاب الديانات لم يعد لها مكان في المجتمع الحديث، كما أن الخلافات التاريخية بين الصحابة و التابعين مهما كانت أسبابها ،قد انقضت بانقضاء عهدهم، و الله يحكم بين الجميع. وجميع الخلافات التاريخية بغض النظر عن أطرافها لا تمثل التزاما آو مسؤولية أو واجبا على المواطنين المعاصرين. ولذا فإن اتباع جميع الأديان و المذاهب و الطوائف و الأعراق والقوميات هم أخوة و أصدقاء،و يقفون على مستوى واحد وهو أخوة في الدين والإنسانية والمواطنة.أن الأديان جميعها جوهرها الرحمة الإنسانية والتسامح وقبول الآخر، ومناط المسؤولية فيها العلم والعقل. ومن هنا فإن أي شخص أو فئة أو مجموعة يلجأ إلى العنف والى التعصب والى التفريق بين الناس وبغض النظر عن الحجج والأسباب والادعاءات هو خارج عن جوهر الأديان جميعها و خارج على القانون الوطني و الإنساني ومرفوض من قبل المجتمع.
إن الدول والمجتمعات تحتاج إلى التجديد والتغيير وهذا طبيعة الأشياء، وسنة الحياة، ولكل مواطن الحق في المساهمة في التغيير والمشاركة في التجديد. غير أن التجديد والتغيير لا يتم إلا من خلال القانون والمؤسسات، وفي إطار الدولة. وكل عمل من شأنه أن يزعزع الدولة بأمنها أو اقتصادها آو مرافقها أو ثرواتها أو بنيانها مرفوض ويعتبر خروجا على القانون وعلى توافق المجتمع.إن الدولة هي حامية المجتمع ووعائه الحضاري، وكل تفكك أو انهيار في الدولة يعني إيقاع الأذى في المجتمع بأسره، وهو أمر غير مقبول بأي شكل من الإشكال.
و يمكن لمثل هذه الوثيقة أن تأخذ شكلا ملزما قانونيا و أدبيا للجميع من خلال أربعة قنوات رئيسية. الأولى أن تقر في مؤتمر عام تشارك فيه القوى السياسية و منظمات المجتمع المدني، تمهيدا لإقرارها من مجلس الأمة. الثانية أن تكون لها صفة قانونية ملزمة وتعتبر مخالفتها مخالفة تحت طائلة القانون.الثالثة أن تعمل وسائط الإعلام على الإلتزام بها ، فلا تقبل بث أو نشر ما يناقضها . الرابعة أن تأخذ مكانها في الدعوة الدينية و في التربية الوطنية في المؤسسات التعليمية و النشاطات الثقافية.
و ما لم تصبح الدولة بمؤسساتها التشريعية والتربوية والثقافية و الإعلامية و الدينية طرفا فاعلا في التنوير ،فأن الحديث عن مكافحة إيديولوجيا التطرف و الخروج و التضليل يبقى محصورا في نطاق ضيق و سرعان ما يختفي، و تعود الأمور لما كانت عليه.و هناك سوابق كثيرة في أوروبا وغيرها تدل على أهمية دور الدولة.فقد جرمت عدد من الدول الأوروبية،ليس معاداة السامية فقط بل مجرد إنكار الهولوكوست، و وضعت ذلك في قوانينها. إن استرجاع الإسلام من مختطفيه في كل مكان لا يمكن أن يتحقق دون تشريعات صارمة ،تأتي في مقدمتها أن تكون هناك مرجعية رسمية واحدة للإفتاء في المسائل الدينية، كما جاء في وثيقة الأزهر، و هي لدينا دار الإفتاء.
و أخيرا، و في ظروف تجلي الوحدة الوطنية في أعقاب استشهاد البطل معاذ الكساسبة، فإن الوسائل متاحة للعمل و إنهاء حالة الفوضى الفكرية التي تجتاح العالم العربي و تهدد استقرار المجتمعات و حياة الناس العاديين. و لكن تغيير حالة التطرف و الخارجية و الإرهاب، و استرجاع ما اختطفه المتطرفون يتطلب المبادرة الحاسمة للدولة و لكافة الأقطار العربية في الميدان الأيديولوجي بعد أن حسمت أمرها في الميدانين العسكري و الأمني، فذلك شرط لبناء مستقبل و طني و عربي أكثر أمنا و استقرارا. إن مبادرة الدولة تمثل بداية العمل لتتبعها و تلتزم معها القوى السياسية و منظمات المجتمع المدني والمجتمع .