ليس هناك مصطلح أكثر تداولاً في الخطاب الإعلامي العربي، وأوسع قبولاً لدى النخب السياسية في هذه المرحلة، من تعبير “المؤامرة الكونية” ذائعة الصيت، سوى تلك الخرافة السقيمة المسماة “المجتمع الدولي”، إلى حد يبدو فيه هذان الاشتقاقان اللغويان المسلم بهما من دون إعمال ذهن، وكأن بينهما مصاهرة سياسية، أو صلة نسب بيولوجي قديم، قدم ظهور الدولة الحديثة.
سندع تعبير “المؤامرة الكونية” جانباً، لكثرة ما أريق حوله من حبر، وقيل فيه من معلقات هجاء على مدى السنوات القليلة الماضية، كي نخصص هذه المساهمة المتواضعة لمقام فرية “المجتمع الدولي” هذه، والتي صارت بمثابة لازمة لكل المواقف والتصريحات والبيانات الصادرة تباعاً عن مختلف الأوساط الحكومية والحزبية والقوى السياسية، لاسيما منذ اندلاع الثورات العربية.
ولا أحسب أن هناك دولاً وشعوبا تعوّل على ما يسمى بالمجتمع الدولي، وتشكو من إهماله لقضاياها الساخنة، أكثر من الدول والشعوب العربية، التي تكاد تتنصل من مسؤولياتها إزاء مصائرها، ولا ترى مآخذ تذكر على سوء إدارتها لمشكلاتها الذاتية، وذلك لكثرة ما تلقي به من عتب وغضب، يصل أحيانا حد التقرع، على كاهل ذلك الكائن الغامض، حتى لا نقول الوهمي، المعروف باسم “المجتمع الدولي”.
ولعل آخر الملتحقين بصفوف المشتكين الباكين النادبين حظهم من إهمال المجتمع الدولي هذا لقضيتهم العويصة، هم أجدادنا الطيبون في اليمن، سواء أكانوا في جانب المعارضة أو كانوا في جانب القوى الحوثية. إذ لم ينفك الناطقون باسم الجانبين عن توبيخ المجتمع الدولي على تقاعسه، وأحياناً تحذيره بشدة، من مغبة انزلاق البلد السعيد إلى الانقسام الجهوي والطائفي، ومن ثم إلى أتون حرب أهلية.
ولا يقل جأراً بالشكوى من اليمنيين، الذين دخلوا مؤخراً على خط التبرم من صمت وتهاون المجتمع الدولي، سوى الليبيين الذاهبين بعيون مفتوحة إلى تدمير أنفسهم بأنفسهم. إذ لا يتردد أي من المتحدثين داخل ليبيا وخارجها، عن إبداء مشاعر المرارة والحس بالنسء، تجاه هذا المجتمع الدولي الذي يواصل التفرج على مأساتهم، من دون أن يحرك ساكناً إزاء انفلات عقال وضع بلد يشاطئ القارة الأوروبية.
ومن نافل القول التذكير بحقيقة أن السوريين، على اختلاف مواقفهم ووجهات نظرهم، لم يكفوا يوماً عن إبداء أشد مشاعر الخذلان والمرارة إزاء ما حل بهم من مجازر ودمار يجلان عن كل وصف، جراء انصراف المجتمع الدولي نفسه عن الاهتمام بآلامهم، وتركه الأزمة الدامية تتفاقم باطراد شديد، وهو الذي كان قد وعدهم غير مرة واحدة بالتدخل، إذا ما تم اجتياز الخطوط الحمراء، وجرى انتهاك القانون الدولي الإنساني بفظاظة.
وحدث ولا حرج عن العراقيين، وقبلهم بكثير عن اللبنانيين والفلسطينيين، وغيرهم من العرب الذين بحّت أصواتهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، وهم يلقون باللائمة على عاتق المجتمع الدولي الذي يشيح بوجهه عن عذاباتهم، ويظهر الاستهانة بمصائرهم، فكانوا بذلك كمن ابتلع مبكراً الطعم الخُلّبي لهذه التسمية الملتبسة، ووقع بقضّه وقضيضه في شرك هذه الخرافة التي لا نهاية لها، ككل الخرافات العتيقة.
والحق الذي لا يبدو أن أحداً يصدقه، أو يريد أن يصدقه، هو أن المجتمع الدولي هذا ما هو إلا التسمية “الكودية” لبلد اسمه الولايات المتحدة، والتي إذا وجدت أن مصالحها، وليس مبادئها، تقتضي منها التصرف العاجل، أو قل التدخل الصارم، تأخذ زمام المبادرة بلا تردد، وتقوم بحمل مجلس الأمن الدولي على إصدار القرارات المناسبة. فإن أعياها ذلك، تبني التحالفات الدولية بمهارة وسرعة، وتمضي في تدخلها، السياسي أو العسكري، تحت يافطة ملفقة، اسمها المجتمع الدولي.
وأغلب الظن أن الشاكين من صمت المجتمع الدولي وإهماله لقضاياهم، لاسيما المولولين من مغبة تفاقم أزماتهم الداخلية أكثر فأكثر، يخاطبون في قرارة أنفسهم تلك الدولة العظمى الوحيدة القادرة، دون غيرها من الدول الكبرى، على التدخل الناجع لحل معضلاتهم وتدمير بلدانهم. إلا أن التلطي وراء جملة من الاعتبارات الشكلية، ومراعاة عنصر السيادة الوهمية، هو الذي يحول دون توجيه اللوم المباشر إلى واشنطن، ومن ثم حثها بكل صراحة على التحرك العاجل، تحت أي من المسميات الملفقة، ومنها ما يسمى بالمجتمع الدولي.
عيسى الشعيبي/فرية اسمها “المجتمع الدولي”
8
المقالة السابقة