هل ثمّة حاجة بمكونات الدولة الرسمية للاستثمار في بشاعة جريمة قتل الطيار البطل معاذ الكساسبة، لحشد زخم شعبي ضد إرهاب تنظيم “داعش”، وضرورة القضاء عليه، في الداخل والخارج، باستخدام الوسائل المتاحة كافة؟
بالتأكيد لا. فخلال دقائق من الكشف عن الجريمة، تحولت المملكة، بجميع مكوناتها، إلى “مشروع شهيد فدا الأردن، ودفاعا عن الوطن وعن النظام”، كما يشرح وزير الداخلية حسين المجالي، نجل الشهيد هزاع المجالي -بعمل إرهابي أيضا- في مقابلة مع كاتبة المقال قبل أيام.
الصولة الأولى ولّدت شعورا جمعيا عارما بالثأر، وحُسمت مبكرا لمصلحة موقف أجهزة الدولة، متمثلاً في حرب دفاعية استباقية على الإرهاب قبل استشهاد معاذ، ونقلته إلى حرب هجومية بامتياز وصخب.
بسرعة البرق، انزاحت الأصوات المترددة، بمن فيهم 28 % من الأردنيين كانوا غير متأكدين مما إذا كان “داعش” تنظيما إرهابيا أم مقاومة مشروعة، وفق استطلاع الرأي الذي نفذّه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بالتزامن مع مشاركة الأردن في الجهد الدولي ضد التنظيم.
لم يبق لداعش من أنصار في ساحتنا الداخلية، ربما باستثناء نسبة لا تزيد على 7 % (تؤيد التنظيم عقائديا)، بحسب الاستطلاع السابق ذاته. هؤلاء تشربوا الأفكار التكفيرية، ومن الصعب تغيير قناعاتهم، بحسب المسؤولين. لكنهم بالتأكيد سيلازمون جحورهم بينما تكثف الأجهزة الأمنية عمليات المراقبة، وحتى الاعتقال الاحترازي.
نجح الأردن الرسمي في تحييد تيار الإسلام السياسي بأطيافه المتعددة. جماعة الإخوان المسلمين، وذراعها السياسية حزب جبهة العمل الإسلامي، أدانا التنظيم الإرهابي، ولو أنهما لم يقرنا الطيار الكساسبة بصفة “شهيد”، بعد أشهر من التردد أثار تساؤلات العديد من الأردنيين.
رافق ذلك مفاجأة منظر التيار السلفي الجهادي أبو محمد المقدسي، حين استنكر “داعش” وأخلاق القائمين عليه، عبر شاشة تلفزيون “رؤيا”؛ في انقلاب في الموقف أعلن عنه مباشرة بعد إخلاء سبيله مساء الخميس الماضي. وأعلنت مبادرة “زمزم”، بقياداتها المنشقة عن “الإخوان”، بناء تحالف وطني في مواجهة الإرهاب والفكر المتطرف.
يقر مسؤولون بأن وضع الجبهة الداخلية سيكون مختلفا بدرجة كبيرة لو لجأ “داعش” إلى طريقته التقليدية في تصفية الرهائن، من خلال جز أعناقهم، بحسب ردود الفعل التي طفت على السطح منذ البدء بشن الضربات الجوية على التنظيم، وبعد سقوط طائرة الشهيد الكساسبة، والأيام الصعبة التي سبقت بث فيديو الجريمة بحقه.
لكن أجواء الغضب الشعبي العارمة قابلها تضاؤل مستوى تقبّل الرأي العام لأي اعتراض أو نقد مغاير لثنائية “معنا أو ضدنا” في الحرب على “داعش”، أو محاولة التساؤل عن المدى الذي سنذهب إليه بعد أن صار الأردن، الرسمي والشعبي، أكثر علانية وعدائية لداعش؟
لغاية الآن، تعاملت الدولة مع “فورة دم” الأردنيين بسرعة وحكمة عالية واقتدار، بحسب ساسة ومحللين. إذ قطع الملك زيارته لواشنطن، وتحدث بلغة حميمة إلى الأردنيين عبر شاشة التلفزيون، معزيا أهل الشهيد والأردنيين بهذا المصاب الجلل، ومتوعدا بالقصاص. ونفذ حكم الإعدام بحق الإرهابيين العراقيين من عناصر “القاعدة”، ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي، كما نفذ سلاح الجو غارات جوية ضمن عملية خاصة بالشهيد معاذ داخل سورية.
لكن الخشية اليوم هي من انزلاق الأردن نحو حرب أوسع، في غياب حوار وطني عقلاني، تدخل فيه حسابات إمكانات البلاد ومصالح المملكة وسلامة مواطنيها، كما حصل قبل وبعد الانضمام للتحالف العربي-الدولي بقيادة الولايات المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي، من دون تهيئة الرأي العام.
بالتأكيد، من الصعب على ساستنا ومحللينا الحديث بأريحية اليوم عن فرص ومخاطر التصعيد العسكري ضد “داعش”، قبل أن تهدأ النفوس أو تتبين الكيفية التي سيترجم بها الرئيس الأميركي -كون بلاده قائدة التحالف- التعهد الذي قطعه بعد جريمة قتل الشهيد الكساسبة بـ”مضاعفة يقظة وتصميم التحالف لضمان الهزيمة الكاملة لتنظيم داعش”.
إذ لا مناص من استراتيجية سياسية وعسكرية، جوية وبرية، أوسع وأوضح، ضمن مراجعة دولية شاملة لعمليات التحالف الدولي، يكون لعمان فيها دور محوري. لأنه بات واضحا أن الغارات الجوية بمفردها لن تحقق الهزيمة الكاملة لداعش. لكن ما هي الإجراءات الفعلية والمتطورة المطلوبة من أقطاب التحالف، وبالذات من واشنطن، لتحصين الأردن من التنظيم المتوقع أن يسعى إلى توسيع حلقة انتقامه من عمّان بعد التصعيد الأخير؟ وكيف ستكون طبيعة الدور الأردني القادم؟
قبل ثلاثة أيام، أعلن التحالف الدولي عن قرب بدء هجوم بري واسع ضد التنظيم، يقوده العراق بإسناد من هذا التجمع الذي يضم أكثر من 50 دولة. لكن، هل سيلعب الأردن دورا مباشرا في ذلك، كما فعلت طائراته عندما أطلق التحالف نشاطه قبل خمسة أشهر، أم أن مهمته البرية ستقتصر على تدريب عناصر الألوية العراقية التي تستعد للحملة، إضافة إلى الإسناد الاستخباراتي ومحاولة كسب دعم العشائر السُنّية في العراق؟
لدى انطلاق الحملة العربية-الدولية، كان الحديث -بحسب مسؤولين- عن عمل عسكري مدعوم باستراتيجية داخلية لمحاربة الفكر المتطرف في المساجد والمدارس وبين الشباب. اليوم، يكثر الحديث عن أعمال عسكرية واستخباراتية وأمنية، بما في ذلك إمكانية تنفيذ قوات خاصة عمليات عابرة للحدود، تستهدف قطف رأس البغدادي وغيره، على غرار مهمات “فرسان الحق”، التي اصطادت أبو مصعب الزرقاوي والعديد من أعوانه، بعد أن فجر تنظيم “القاعدة” ثلاثة فنادق عمانية خريف العام 2005.
الموقف الرسمي الأردني يبدو واضحا؛ تغيرت قواعد اللعبة بعد جريمة “داعش” الوحشية. وكل الاحتمالات مفتوحة، بما فيها الاستعداد لردود أفعال تنظيم دموي يرابط على حدودنا، ولا يلتزم بأي قواعد للاشتباك.
في المقابل، بدأت أصوات خافتة لساسة ومحللين تتساءل عن المدى الذي سيذهب إليه الأردن في هذه الحرب، وكلفتها الآنية والمستقبلية؛ وبشأن أي من حلفائه العرب والغربيين سيعتمد في ظل ظروف معقدة، ومصالح إقليمية ودولية متضاربة. ومن سيمول كلفة مضاعفة الجهود الأردنية القتالية، والنفقات المرتفعة لتسيير مقاتلات “أف-16” المتقادمة التي يمتلكها سلاح الجو، مع وجود خزينة مثقلة أصلا بالديون؟ هل تقدر الولايات المتحدة -صاحبة السياسات المتلكئة والغامضة- على تكثيف ثقلها في التحالف، بينما تعمل في الخفاء مع إيران للتوصل الى تفاهمات تقلق حلفاء أميركا الخليجيين، كما تتحدث عبر وسطاء مع الرئيس السوري لضمان دعمه في الحرب على “داعش” في غياب بديل مقنع داخل المعارضة المشرذمة؟ وهل ستتحرك سورية الأسد، بعد أن حذر وزير خارجيتها وليد المعلم، يوم الاثنين الماضي، الأردن وغيره من أي عمليات عسكرية برية تخرق سيادة بلاده؟ هل تقبل روسيا التضحية بالأسد لإنجاح جهود التحالف، أو ينجح الأخير في تسويق نفسه شريكا في التحالف ضد “داعش”؟ هل سيظل مستوى الحماس الشعبي بذات الوتيرة؟ هل الأردنيون مستعدون لتحمل تكلفة توسيع انخراط بلادهم في الحرب، مع احتمال وقوع جنود وطيارين أسرى في يد التنظيم، أو خسارة أرواحهم في العمليات؟ ماذا عن إمكانية قيام “داعش” بتنفيذ عمليات إرهابية داخل الأردن للثأر من ردود فعله، كما حصل العام 2005؟ وهل سيلجأ الأردن إلى فرض الأحكام العرفية في حال ازداد الموقف العسكري تعقيدا، إضافة إلى فرض المزيد من التشديد على الحريات السياسية والإعلامية المتراجعة أصلا، وفي ظل الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب؟
يأتيك الرد الرسمي جاهزا: “هذه حرب جديرة بخوضها من أجل مصالح الأردن ومستقبله واستقراره، وأيضا استقرار المنطقة بأسرها وسائر العالم”.
الأردن، بحسب مسؤولين، يعول كثيرا على الدعم الأميركي لمنظومته العسكرية التي تعد الأقوى والأكثر تنظيما وفعالية في العالم العربي. فواشنطن أثبتت أنها حليف الأردن الأقوى. والكونغرس يضغط لتسريع تزويد الأردن بالسلاح، بما فيه معدات تعقب وإنقاذ، وأسلحة وذخائر. كذلك، وافقت واشنطن على توفير ثلاثة مليارات دولار لمساعدة الأردن اقتصاديا وعسكريا (2015-2017). وعديد الدول الأوروبية جاهزة من حيث المبدأ لإسناد الأردن عسكريا. والإمارات العربية المتحدة تدعم المملكة بسرب مقاتلات “أف 16″، وبذلك تكون صاحبة الموقف الأوضح في منظومة دول الخليج المنضوية في هذا التحالف لجهة دعم الأردن. والأمل في إصلاح استراتيجية التحالف الدولي، بحيث تتضمن إجراءات أكثر حسما وحزما وتمكينا فعليا لتنفيذ السياسة التي أعلنها الرئيس باراك أوباما للقضاء على “داعش” بعيدا عن هفوات التردد السائد.
وفي العواصم الغربية، حديث عن الحاجة إلى “حلف أطلسي عربي”، أو قوة عربية تعمل على الأرض في سورية والعراق، بمشاركة جوية أميركية واسعة.
بخلاف ذلك، سيكون من الصعب على الأردن الرسمي التراجع وإدارة سقف التوقعات الشعبية العالية التي نشأت عن التصعيد الأخير ضد “داعش”، في حال شعرت المملكة بأن حلفاءها لن يسعفوها، وقد ينكشف ظهرها.
شخصيا، تحتل الحرب الخارجية على الإرهاب، ذات أهمية الحرب الداخلية ضد فكر “داعش” المتغلغل في أحشاء المجتمع. وسيكون من الصعب تقبل فكرة بقاء داعشي واحد بيننا أو على حدودنا، بعد الثمن الغالي الذي دفعه شهيد الوطن معاذ الكساسبة، ومحاذير تصعيد الهجوم على “داعش”.
رنا الصباغ/الشعور الجمعي ضد إرهاب “داعش”.. ودائرة الحرب القادمة
18
المقالة السابقة