لم يمر سوق النفط بحالة من الضبابية والغموض كما هو عليه في هذه الأيام، فهبوط سعر البرميل من أكثر من (100) دولار إلى (46) دولار في فترة لا تتجاوز الـ (6) أشهر أمر لم يكن متوقعاً أبداً، ولم تستطع أي من مؤسسات الخبرة المتخصصة أن تتنبأ بذلك ولو بشكل تقريبي. و من المفيد أن نشير إلى الأسباب التي ساهمت في هذا الانهيار الفجائي لان بعضا منها سوف يستمر لسنوات، مما سيجعل الرجوع إلى المستويات السابقة من الأسعار يستغرق وقتاً طويلاً. أولاً: تراجع الطلب على النفط نتيجة لبطئ النمو الاقتصادي في كل من أوروبا واليابان والصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وهي الدول التي تستهلك أكثر من 50% من النفط العالمي. ثانياً: اهتمام الكثير من الدول ونجاحها في زيادة كفاءة أنظمة الطاقة، وبالتالي تخفيض الاستهلاك. حيث لم يرتفع استهلاك العالم من النفط خلال السنوات الستة المنصرمة بأكثر من 6% أي بمعدل 1% سنويا . ولعل السيارات الهجينة والكهربائية واستخدام أنظمة العزل الحراري وكفاءة المعدات وتطوير الأنظمة الذكية الأقل استهلاكاً أمثلة واضحة. ثالثا: توجه العالم نحو الطاقة المتجددة، وانتشار طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحيوية على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. رابعاً: توجه كثير من الدول إلى استخدام بدائل النفط كالفحم والغاز باعتبارها اقل كلفة وأكثر استقراراً في الأسعار، ولا تخضع للمضاربات التي يخضع لها النفط. خامساً: انخفاض مستوردات الولايات المتحدة من النفط الخام إلى اقل من (6) مليون برميل يومياً، وهو مستوى غير مسبوق، نتيجة لإنتاج النفط الصخري الأمريكي هناك بكميات كبيرة، وانخفاض الاستهلاك لتحسين الكفاءة، والتوسع في استخدام وقودات بديلة ومتجددة. سادساً: انهيار سلطة الدولة في كل من ليبيا والعراق، وحالة الفوضى التي تكتنف إنتاج كميات و أنواع النفط في هذين البلدين و تقدر بحدود 3 مليون برميل يومياً يتم بيعها بأسعار منخفضة من خلال تهريب أجزاء كبيرة منها. سابعاً: عدم ضبط الإنتاج النفطي للدول النفطية خارج منظمة الأوبك والتي تنتج ما يقرب من 30% من النفط العالمي. ثامناً: حالة الاضطراب السياسي والأزمات المستعصية في الشرق الأوسط من جهة وفي أوكرانيا من جهة أخرى، وتأثر أوروبا والولايات المتحدة بشكل واضح بهذه الأزمة. تاسعاً: تمسك دول الأوبك حتى الآن، وخاصة السعودية ودول الخليج والتي تنتج ما يزيد عن 16 مليون برميل يومياً، بالإبقاء على كمية الإنتاج على حالها وعدم تخفيض الإنتاج للتأثير على الأسعار.
أما الدول غير المنتجة للنفط، فقد جاء انخفاض أسعار النفط بمثابة هدية مالية لم تكن متوقعة، إذ أن كل مليون برميل مستورد حمل معه بالمتوسط (25) مليون دولار وفرا ًمباشرا. وهذا بالنسبة للأردن يعادل ما متوسطه (150) مليون دولار شهرياً على مدى الأشهر الستة الماضية. غير أنه في مقابل ذلك، فإن الدول النفطية في المنطقة، وفي مقدمتها السعودية ودول الخليج والعراق، هبطت عائداتها من النفط إلى اقل من النصف، في حين أن برامجها ومشاريعها وموازنتها تم رسمها على أساس أسعار (100) دولار للبرميل. وهذا خلق عجزاً هائلاً لدى معظم هذه الدول وبلغ عجز الموازنة 38 مليار دولار في السعودية مثلا لعام 2015. وبالتالي فمن المتوقع أن ينعكس على ذلك على استعدادها لتقديم المساعدات للدول الصديقة والشقيقة ونحن منها. صحيح أن لديها أرصدة واستثمارات كبيرة في أوروبا وأمريكا إلا أن تأثير هبوط الأسعار لا يمكن التقليل من أثره، و سيكون مشكلة معقدة إذا طالت مدة الهبوط.
والسؤال: ما هي ملامح و مؤشرات المستقبل؟ أولاً: من المتوقع أن يستمر عدم استقرار الأسعار لفترة لا يستهان بها. و هذا يستدعي أن يؤخذ الموضوع بغاية الحذر. إذ هناك توجه قوي لدى شركات النفط العالمية لتخفيض استثماراتها في المنشآت النفطية و هذا من شأنه أن يخلق خلخلة جديدة في الأسعار.ثانيا من المتوقع والضروري أن تأخذ الدول النفطية موضوع تنويع مصادر الدخل وتخفيض الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي يصل في بعض البلدان إلى أكثر من 95% إلى حجم متواضع لا ينبغي أن يتعدى (20%) بحلول عام 2030 حتى تتمكن من المحافظة على مستوى الدخل و المشاريع القائمة والملتزم بها. ثالثاً: أن تأخذ جميع الدول، المصدرة للنفط والمستوردة على حد سواء، مسألة رفع كفاءة الاستهلاك ومشاريع الطاقة المتجددة، و الوقودات البديلة بما فيها الفحم مأخذا استراتيجياً جادا بكل ما يلزم ذلك من برامج واستثمارات. رابعاً: أن تعتبر الدول المستوردة للنفط، مثل الأردن و غيرها، أن هذا الانخفاض في أسعار النفط هو مجرد” فرصة مؤقتة ينبغي استثمارها بحكمة وحصافة” تتمثل أساساً في استخدام الوفورات المتأتية عن الانخفاض في تطوير البدائل من الطاقة المتجددة وتصنيع النقل من خلال شبكة سكة الحديد واستثمار كاف في رفع كفاءة الطاقة والشروع الفوري في تنمية المحافظات وبدء حركة تصنيع جادة و ربما بمشاركات سعودية و خليجية .
وأخيراً فإن انخفاض الأسعار لا ينبغي أن يذهب لمواجهة النفقات الجارية كما هي العادة، و إنما لا بد من وضع برنامج واضح وناجز من قبل الحكومة و بالتشاور مع القطاعات المستهلكة للطاقة ومع الخبراء، يتضمن المشاريع والاستثمارات والديون الخاصة بالكهرباء، والمباشرة بتنفيذه. و بذلك فقط يكون انخفاض أسعار النفط، بتعاون الجميع، فرصة مفيدة و حقيقية لرسم مستقبل أفضل للطاقة في الأردن.
د.ابراهيم بدران/إنهيار أسعار النفط.. المصالح.. والفرص
12
المقالة السابقة