بعد قضية الرسوم المسيئة، وما حصل للصحيفة الفرنسية بسبب هذه الرسوم كما نشر، فإن هذه الصحيفة نفسها كررت الإساءة بعد الحادثة، فإن الكثيرين، يستغربون من الإساءة إلى دين الإسلام، والمساس برموزه، مع أن مفهوم العلمانية ـ كما قيل ـ هي الحياد التام، واحترام العقائد، لكن الذي يلاحظ أن الحملة والإساءة استهدفت الإسلام ونبيه، دون أن تكون هناك مبررات، عدا شعار حرية التعبير!! في الوقت الذي سنت القوانين واللوائح (في ظل العلمانية)، لمنع الإساءة للسامية، ومعاقبة من ينكر أو يشكك في (الهولوكوست)؟!
فلم يسبق أن واجه مصطلح فكري فلسفي معاصر التباين والتناقض الحاد في مفاهيمه ومحدداته كما واجه مصطلح “العلمانية” ولا يزال كذلك منذ بروز حركة التنوير في أوروبا في القرن السادس عشر إلى عصرنا الراهن ضبابياً وفضفاضاً تعريفاً وتعاطياً مع مفرداته ومحدداته.. وأحياناً انتقائياً ومفصلياً بهدف تسويق هذا الفكر ليكون عمومياً وكونياً تحت منطلقات في ظاهرها الرحمة مثل “وحدة الحضارة” وحدة الثقافة العالمية” استهدافاً لتذويب ثقافة الآخر وفكره واحتوى مقدراته. لكن هؤلاء تناسوا أن هذا الفكر المذهبي له دلالات تاريخية عميقة الجذور في الفكر المجتمع العربي.. وبالصراع الذي قام بين الكنيسة والمذاهب الوضعية الفلسفية في أوروبا وهو تاريخ طويل من الصدام التصوري حول تحديد الرهان الفكري والديني القائم آنذاك ولمن تكون له الغلبة في خضم هذا الصراع بين السلطة الدينية والسلطة الدينية التي عرفتها أوروبا في تلك الحقبة، وتمخضت عنها مفاهيم ونظريات مناقضة لأفكار وتصورات الكنيسة كردة فعل لهذا الصراع.. فما هي هذه العلمانية؟
جاء مصطلح العلمانية تحديداً في القرن السابع عشر الميلادي بعد تجاوزات سلطات الكنيسة وتسلطها، ومن ثم أتى معبراً عن مضمون تلك الظروف والملابسات التي حدثت في الغرب.. “فالعلمانية” تعني كما جاءت في القواميس الإنجليزية (secularism) “المذهب الدنيوي” أو”اللادينية” وهي صيغة نشأت أصلاً كمقابل للمقدس أو الخارق للطبيعة أو الجمود والتقليد.. ويصفها البعض “باللايكية” أي المدنيون المنسوبون للشعب الذي يقيمون المجتمع المدني.. أو الفصل التام بين الدين والحياة، ولذلك نجد أن دائرة المعارف البريطانية عرفت العلمانية بأنها “حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا” وهذا المبدأ كما حددته الفلسفة الوضعية لحركة التنوير القرن السابع عشر الميلادي عند نزاعها مع سلطة الكنيسة يقوم على فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية وإقصاء الكنيسة عن أن يكون لها دور في تنظيم المجتمع وإدارة شؤونه، بحيث تصبح الدولة “لا دينية” في نظمها وتوجيهها لحياة الناس بعيداً عن سلطة الدين وقواعده.
وجاء في قاموس أكسفورد شرحاً لكلمة “SECULER” بأنها تعني: “دنيوي” أو “مادي” ليس دينياً ولا روحياً ـ السلطة اللادينية ـ الحكومة المناقضة للكنيسة.
والغريب أن بعض مترجمي مصطلح “العلمانية” اللاتيني نسبها إلى العلم تحريفاً، وهي ليست كذلك، فلا صلة مطلقاً بين العلم والعلمانية، لا من قريب ولا من بعيد، فهي تعني “العالمانية ” نسبة إلى العالم الدنيوي بفتح اللام، أما العلم فيطلق عليه باللغة الإنجليزية (SCIENCE)، والمذهب العلمي يطلق كلمة (SCICNTISM)، وقد أوضح جون راندال كما يشير بعض الباحثين في كتابه (تكوين العقل الحديث) “أن العلمانية ظهرت في أوروبا في بداية القرن السابع عشر وأخذت عبر التاريخ عدة مفاهيم فكانت تعني فصل الدين عن الدولة في القرن السابع عشر والثامن عشر، ثم تحولت إلى إبعاد الدين عن الدولة في القرن التاسع عشر، ثم حدث تغير طفيف في القرن العشرين بعودة السلطة الزمنية للكنيسة الكاثوليكية سنة 1929م بإعادة قيام الدولة الفاتيكان بعد أن أدمجت من قبل سنة 1870م الولايات البابوية في مملكة بريطانيا، ويشمل التغيير أيضاً السماح بقيام أحزاب مسيحية دول أوروبا، وتبني الأهداف السياسية المسيحية في أكثر من دولة.
بدأت الفلسفة الوضعية في أوروبا بتبني العلمانية في القرن السابع عشر وبعده، وتفاوتت في طرحها لهذه الفكرة ودرجة بعدها عن الكنيسة والدين تبعاً للفلسفة التي تطرح نهجها ومفاهيمها تجاه معطيات واستجابات المجتمع الأوروبي الذي صدم في اضطهاد الكنيسة وقسوة ردود فعلها على العلوم والمخترعات.. لكن هذا التفاوت ـ كما يقول د. محمد عمارة ـ لا ينفي إمكانية تحديد طورين ومرحلتين مرت بهما العلمانية في الفكر الأوروبي:
الأولى: تلك التي تعني فيها عزل الدين والكنيسة عن شؤون المجتمع وسياسة أحساب بناء الدولة البورجوازية وفي سبيل دعمها.. والسعي لتصفية اللاهوت المسيحي وتنقيته مما هو غير عقلاني من مثل عقيدة التثليث والطبيعة الإلهية للمسيح.. والعمل على رفع الوصاية الدينية عن التعليم تمكيناً للفطرة الإنسانية من الاختيار!.
وهي المرحلة التي استهدفت فيها هذه “العلمانية الثورية” هدم الدين وتخليص الدولة الاشتراكية من تأثيراته، وذلك لحساب العدل الاجتماعي ـ الاشتراكية فالشيوعية (مع العلم أن هذه الأفكار والأطروحات مجرد لم تنجح النجاح المأمول ولعل سقوط الشيوعية في معظم دول المعسكر الشرقي أكبر دليل على ذلك).
أما العقلانية ـ العلمانية ـ المغلفة بالحياد والبعد عن التشدد الفكري فقد أوقعت ذوي الإيرادات الخيرة وما تنفك توقعهم في الحيرة والارتباك والفراغ لأن الانتقال من “اللاأكليركية” إلى الأيمان بسيادة العقل .
فالفلسفة العقلانية كحركة إصلاحية تنويرية لتقويم دور الكنيسة المدينة الانطلاق بالأسس الإصلاحية الدينية إلى مستويات إيجابية تفتح آفاق المعرفة العلمية، ونزع الوصاية اللاعقلانية التي أسهمت في تكبيل العقول واتهام المخترعين بالهرقطة والمروق من الدين. لكن الأمر انقلب إلى هجوم على الدين نفسه وأحيانا بطرق غير علنية وغامضة. وهذا ما عبر عنه جورج كلمنصو “أن حربنا ليست في المسالك الوعرة الملتوية. بل هي في المدرسة ” وتعليمات جول فري للمعلمين: “تكلموا بكثير من التحفظ والاحتراس كلما تعرضتم للمشاعر الدينية التي لا شأن لكم بها.. لا تحاولوا أبداً أن تمسوا لدى الولد وجدانه الحساس الرهيف” بينما فضح فيفياني غاية العلمانيين من فكرة الحياد .
العلمانية إذا مصطلح ومضمون له حموته الفكرية المغايرة عن الواقع العربي الإسلامي، ولم تنجح عندما طبقت قسرا على مجتمعات وبيئات غير حاضنة لها فلم تنتج لا ديمقراطية صحيحة، ولا ترسخت حقوق إنسان حقيقية، ولا طبق معها مجتمع مدني فاعل، بل إن العلمانية شايعت كل الإيديولوجيات وتناغمت مع كل النظم بما فيها الاستبدادية.. وللحديث بقية.