المملكة العربية السعودية بخير، مر الربيع العربي فمضى من حولها، شعرت به، أحست بهبوبه ورأت سخونته من حولها، ولكنها بحاجة إلى إصلاح، يعزز قوتها ويثبت استقرارها، والملك سلمان بن عبدالعزيز قادر على ذلك بحكم خبرته العريضة والعميقة في الحكم منذ أكثر من نصف قرن، وميزة أخرى اختص بها، أنه أكثر أبناء الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود شبهاً به في الحديث والهيئة، ومن أعرفهم به من خلال عنايته بتاريخه وتراثه، فهو المؤسس لدارة الملك عبدالعزيز المعنية بذلك.
عبدالعزيز آل سعود، رجل الإصلاح الأول في جزيرة العرب بعد قرون من تجاهل التاريخ لها. ابن وفيٌّ لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية، ولكن فهمه لها لم يمنعه من الانفتاح على الحداثة والعالم. ابنه سلمان يعرف ذلك وفعله، ولكن هناك ميزة ثالثة ومهمة تجعل مهمة الملك الصعبة أسهل، وهي أن سلفه الراحل الملك عبدالله فتح باباً واسعاً للإصلاح، هذه الكلمة التي كانت قبل عقد من الزمان «حساسة» غير مستحبة، فسرتها بيروقراطية متكلسة أنها اعتراف بوجود أخطاء. الملك الراحل كان شجاعاً أن يقول لتلك البيروقراطية ومن خلال الإعلام، نعم هناك قصور وأخطاء تستوجب الإصلاح.
كان الملك الراحل يمارس مع شعبه والبيروقراطية السعودية العتيقة ورجال الفكر والدين، سياسة متدرجة، تارة في دفعهم للإصلاح، وأحياناً أخرى «صادمة»، وذلك منذ أن كان ولياً للعهد وحتى قبل أشهر قليلة عندما صدم علماء الدين بقول صريح: «أرى فيكم كسلاً» فانتفضوا في نشاط.
حضرت بصفتي صحافياً واحدة من هذه اللحظات، في شباط (فبراير) 2009. أصدر رحمه الله سلسلة قرارات معنية بإصلاح القضاء والتعليم و»هيئة الأمر بالمعروف» التي يسمونها في الخارج «الشرطة الدينية»، وكلها هيئات رمزت وعانت من جمود فكري استمر طويلاً، وأثر في التنمية في البلاد وامتد إلى العقل السعودي.
دعاني يومها ديوان الراحل مع مجموعة من الزملاء الصحافيين والكتاب للقاء مع الملك في روضة خريم، تلك الواحة الخضراء في صحراء الرياض، التي أحبها وعاش أيامه الأخيرة فيها قبل انتقاله إلى المستشفى. جلسنا حوله، من دون تكلف، من دون بشوت، ولا ميكروفونات، ولا سكرتير صحافي يدير الحوار، كنا نسأل وهو يجيب، كان سعيداً بشوشاً تلك الليلة، متفائلاً.
في طريق العودة كتبت أهم محاور حواره معنا. شعرت أنه حديث مهم يستحق أن ينشر، إذ كان صحياً وغير متكلف، ويستحق أن يطلع عليه المواطن السعودي.
في غرفتي بالفندق أكملت الحوار، أرسلته لصديق لي في الديوان، تمنيت منه أن يسمح لي بنشره، فاللقاء لم يكن للنشر. وعد أنه سيعود لي بالإجابة، سألته بعد يوم، بعد أسبوع، في النهاية اعتذر، وقال: سأخبرك حينما أحصل على موافقة.
رحل صاحب الحوار، وأعتقد أنني أستطيع أن أنشر ما سمعته من الراحل، لأنه يكشف عن إيمانه بالإصلاح، هذه المهمة التي فتح بابها مشرعاً لخليفته من بعده، ولكل مواطن سعودي يريد بلداً أفضل. في البداية شرح لنا ما الذي دفعه إلى إصدار تلك المجموعة من القرارات الإصلاحية، فقال: «في الأول فكرت في تغيير محدود، ولكن بمرور الوقت والتفكير والبحث وارتباط العمل والتنمية والإصلاح ببعضه البعض، وجدت أن الدائرة تكبر… قلت: على بركة الله ليكن التغيير كبيراً، يهمني إصلاح التعليم، ولكن القضاء هو ما كان يشغلني، كنت غير سعيد بما يحصل فيه، خاصة تسرب الكفاءات والشيوخ والقضاة الجيدين… لماذا؟ كان هذا يشير بوضوح إلى وجود مشكلة، اتصلت ببعضهم وتصارحت معهم، سمعت وجهة نظره، بعضهم كان غير راغب في العودة إلى القضاء… زهد في كل شيء، نخّيتهم، إنها مصلحة المسلمين، وفي النهاية قبلوا، والآن هم الذين سينفذون تطلعات المواطن قبل أملي في إصلاح القضاء».
اليوم وبعد 5 سنوات، يشهد المواطن إصلاحات كبرى في القضاء، ولكنها تظل دون الرؤية التي كان عرضها علينا الملك عبدالله في تلك الأمسية الباردة بروضة خريم. كان رحمه الله متديناً، مؤمناً بدور الدين ومرجعيته في الحياة، ولكنه كان يخشى أن يؤدي تكلس العلماء وجمودهم إلى أن يفتتن الناس بغير الدين، وهذه هي عبارته تحديداً كما سجلت ليلتها:
«أنا لم أعمل إلا واجبي، يهمني المواطن أكثر، وكذلك ديننا، واجبنا أن نرفع شأن دين الله عز وجل ونعزّه، كي نؤكد أنه صالح لكل زمان ولكل العباد، حتى لا يفتتن الناس بغير الدين، يجب أن يكون حكم الله هو المهيمن والحاكم، ولكن لا يجوز أن تعطل مصالح العباد في المحاكم ويقال هذا شرع الله، هذا ليس شرع الله، في شريعته الحق وإعطاء الحقوق لأصحابها. الحمد لله لم نبخل عليهم بالمال. كم؟ 6 بلايين ريال هذا فقط لتطوير القضاء وليست ميزانيات سنوية ورواتب. يجب أن يكون هناك قضاة كافون لكل المواطنين ومن كل مناطق البلاد، فالجميع فيهم خير».
سأله أحد الزملاء: هل تعمدتم توسيع قاعدة هيئة كبار العلماء لتشمل جميع المذاهب؟ فرد قائلاً:
«ربما كان ذلك صدفة، أنا لم أنظر إلى مذهب هذا أو ذاك، وإنما إلى علمهم، وما قدموه من دراسات وكتب وأبحاث، هذه البلاد قامت على مذهب أهل السنّة والجماعة، وعلى عقيدة السلف الصالح، وعندما حدد الملك عبدالعزيز كتب الحنابلة فإنما كان ذلك في الفقه فقط ولتنظيم القضاء والأحكام، أما الأصل فإننا نأخذ بالدليل والحمد لله ففي الجميع خير».
كنت يومها رئيساً لتحرير صحيفة «الوطن» المثيرة للجدل والدافعة بقوة للإصلاح في المملكة، وكانت الصحيفة تتعرض لضغوط كبيرة. اغتنمت الفرصة، لعلي أحصل منه على ضمانة تحمي «الوطن» والصحافة عموماً، وهي تشاركه في معركته الإصلاحية، فقلت له: من الواضح وقد شرفتمونا بلقائكم بعد أوامركم الكريمة وتعديلاتكم الإصلاحية، وحديثكم الصريح معنا، أنكم تريدون أن يكون للصحافة دور أكبر في المرحلة المقبلة، ونحن نتشرف بحمل هذه المسؤولية، سنكتب ونحلل، ويعلق هذا الكاتب أو ذاك، أحياناً ننتقد بعض ما يبدو وجهاً من أوجه القصور، فإذا أخطأنا سنعتذر، أو نحاسب وفق النظام ونعطي الحق لمن أخطأنا في حقه، ولكن قد يأتيكم وزير أو مسؤول ويقول: صحيفة «الوطن» كتبت كذا أو «عكاظ».. قاطعني مبتسماً، وقال: «لا. لا الوطن، معظم الشكاوى من (جريدة) الوطن. اكتبوا ما شئتم المهم أن تتوخوا الصدق والنقل الصحيح وأعطوا الفرصة للرد والتوضيح، اتصلوا بالمسؤولين. هذا حقكم وهذا حقهم، ولكن ابتعدوا عما يسيء إلى سمعة الوطن، لا أحب الإساءات الأخلاقية، والحديث في مسائل تسيء إلى العرض والشرف، هذه الأخبار تحصل في كل مجتمع، ولكن لا أحب أن يتعود عليها الناس في هذه البلاد الطيبة، ما الفائدة من نشر موضوع عن رجل اعتدى على ابنته والعياذ بالله؟ اتركوا هذه المواضيع واهتموا بما ينفع الناس، أنتم مرآة للمسؤول، أنا أقرأ وأتحرى عما ينشر في الصحف وكثير من أوجه القصور عولجت عندما كشفت عنها الصحف. الأخوة الكتاب، يكتبون ما شاءوا، ولكن يجب أن يكتبوا بمعرفة، ليسأل قبل أن يكتب لا أن يدخل في ما لا يعرفه، ويثير قلق الناس. أنا راض عن الصحافة، والحمد لله أنتم أبناء هذا الوطن وتغارون عليه، وتدافعون عنه، وتخدمونه… هناك زلات ولكن ما يهم. نتسامح معها، لكن إذا اتهمتم أحداً بما ليس فيه، فله الحق أن يحاسبكم ويطلب حقه منكم».
كان من بين القرارات اللافتة يومها تعيين امرأة في أعلى منصب حكومي، بالتالي كانت لحظة تاريخية في بلد متحفظ حيال عمل المرأة بالمطلق، ناهيك بأن تصل إلى مواقع قيادية، فسألت الراحل: لماذا جاء تعيين أول نائبة وزير نورة الفايز الآن؟
أجاب: «الحمد لله أنه عندما فكرت في تعيين سيدة لهذا المنصب، وجدنا أكثر من واحدة مؤهلة، هذه بركة التعليم، نساء كثر فيهن خير وعلم وصدق ومؤهلات، مستعدات لخدمة الوطن، بل إنهن الآن في مواقع عدة يخدمن أبناءهن وبناتهن، هذا هو المطلوب للمرأة السعودية أن تكون قوية متعلمة، والأستاذة نورة ستكون كذلك بإذن الله، ويجب أن تنجح في عملها إذا أرادت الخير لأخواتها، نجاحها نجاح لكل نساء البلد في المستقبل».
لاحقته بسؤال آخر: هل يعني ذلك أن المرأة يمكن أن تكون وزيرة في بلادنا؟ فرد قائلاً: «يا واش… يا واش… (قالها باسماً، وتعني بالتركية قليلاً… قليلاً) كل شيء في وقته، لا داعي للاستعجال ولتنجح نائبة الوزير أولاً…. وأنا واثق أنها ستنجح بإذن الله».
كان هذا آخر سؤال وجدته في أوراقي، ولعل زملاء آخرين سجلوا ما جرى في تلك الليلة، أتذكر منهم الزميل الكاتب في «الشرق الأوسط» الغراء مشاري الذايدي، الذي أذكر أننا تبادلنا أوراق ذلك الحوار، ولكني لم أجد ما كتب بين أوراقي، فلعله ينشرها في عموده.
المهم في إجابته الأخيرة أنه لم يرفض الفكرة، لم يغلق الباب، إنه الإصلاح المتدرج، قال رحمه الله: «لتنجح نائبة الوزير أولاً» هذا هو المعيار، المهم أن ننجح والنجاح يكون بالاستمرار في نهج الإصلاح، وكلنا ثقة بأن الملك سلمان قادر على ذلك.
* إعلامي وكاتب سعودي