ممّا ذكره البابا فرنسيس في رسالة «تاريخية» إلى مسيحيي الشرق الأوسط، عشية احتفالات الميلاد المجيد أواخر العام الماضي، مشجعاً إياهم على تقديم الدعم الأكثر فائدة للحياة الاجتماعية، من خلال شهادة المحبة، لصالح السلام الذي تحتاج إليه المنطقة كالجوع إلى الخبز. وكذلك حثهم من خلال التربية، حيث مستقبل المحبّة على المحك، على «ثقافة اللقاء» واحترام كرامة الإنسان والقيمة المطلقة لكل كائن بشري.
كم هو «غني» و «عميق» مصطلح ثقافة اللقاء (culture of encounter): فالثقافة تتخطّى كونها مجموعة من الأفكار والمعلومات، لتصل إلى السلوك الحياتي، وتدل على الرقي الفكري والاجتماعي والأدبي للأفراد والجماعات. أما «اللقاء» فيتخطى بدوره الحوار والجدل والنقاش، إلى ان يصل بالإنسان إلى احترام الآخر (أو القريب أو الجار) بعيداً عن المصالح الضيقة والآنية، وصولاً إلى العمل معه من أجل المصلحة العليا للإنسانية جمعاء.
ويتعلم المرء هذه «الثقافة» ويتنشأ عليها عبر المثلث الهام للتربية: أي البيت والمدرسة والمجتمع، وكذلك بيت العبادة والخطاب الديني الذي يستمع إليه الطفل ، فيكوّن لديه «خارطة طريق» لما يمكن أن تكون عليه العلاقات الإنسانية. ولا يمكن لمسيرة التعليم هذه أن تنتهي يوماً، بل هي طريق طويلة المدى ينشأ عليها الإنسان ويعزّزها لديه يومياً.
وإزاء هذا التوجه الإيجابي، يواجه الإنسان «تياراً» آخر، أعني به التيار «الإلغائي»، الذي لا يستحق أن يُطلق عليه ثقافة اللقاء، بل «سخافة الإلغاء». وهو الذي توجه من خلاله الدعوات إلى الكراهية والعنف والرغبة في إفناء الآخر عن الوجود.
لكنّ المحبة هي التي ستنتصر، مهما كانت التيارات المناقضة لها بازدياد، وبالأخص في شرقنا أو في العالم ككل. وثقافة اللقاء هي مسؤولية علينا نحن المربين، في المدارس وفي بيوت العبادة، وفي حقول الإعلام والثقافة الفسيحة، أن نعمل على غرسها، بالقدوة الحسنة قبل الكلمة البليغة، إلى الأجيال الصاعدة.
البابا نفسه عندما أدان إجرام باريس قال: «علينا أن نقف مع جميع الناس لوقف انتشار الكراهية، لأنها أساس كل بلاء في هذا الوجود». وهذا هو صدى لإدانة جلالة الملك عبدالله الثاني ومشاركته في المسيرة الأممية المليونية في باريس ضدّ الارهاب والتطرّف والكراهية. والبابا ذاته في معرض لقائه مع أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين لدى حاضرة الفاتيكان، قبل أيام، تكلم عن موضوعين: الاول ثقافة «الاقصاء» التي تمارسها العديد من الجماعات المتطرفة ، وقال بانها لا تقصي القريب فقط ، وانّما تقصي الله عزّ وجلّ أولا ، وثانيا تحدث عن «ثقافة اللقاء» ، ومن دواعي الفخر والسرور لنا في الاردن، أنّ قداسته قد تحدّث عن ايجابيات العام الماضي، معدّا زيارته الى المملكة ، واستضافة الاردن للأخوة اللاجئين والمهجرين، كأنموذج حي وراقٍ لثقافة اللقاء. ولو كان الأمر موضوع بحث جامعي، لاختار الطالب عنوان « ثقافة اللقاء ، المعاني والدلالات ، الأردن أنموذجا».
ختاماً، أستذكر كاهناً توفاه الله إلى الملكوت قبل أيام، الأب إبراهيم حجازين، وقد شاركت ألوف مؤلفّة من الناس في مراسيم جنازته، وصفقوا له طويلاً، ليس لشهاداته الجامعية ، ولا لمال وفير لديه، بل لأنّه كان مُحبّاً للناس ومستقبلاً لهم، وذاهباً لزيارة المتألمين منهم. وقد صرّح رئيس المحكمة الكنسية الاب جهاد شويحات، بانّ محفظة جيب الكاهن الراحل كانت فارغة ، وكان يستدين مالا لمساعدة طلبة فقراء.
محفظة جيب فارغة، وقلب مليء بالحب…
هذا مثل على ثقافة علينا تعزيزها… أي ثقافة اللقاء.
abouna.org@gmail.com