قد لا يعرف البعض منا أن العام 1848 شهد العديد من الثورات والاضطرابات السياسية في أوروبا، عُرفت بـ”ربيع الدول” أو “ربيع الشعوب”. وامتدت هذه الموجة من الثورات التي بدأت في فرنسا، لتشمل معظم مناطق أوروبا، من بينها ألمانيا وبولندا والنمسا وهنغاريا والدنمارك وإيطاليا. وبينما لم يكن هناك أي تنسيق بين هذه الثورات، إلا أنها اشتركت في أسبابها: عدم الرضا عن النخب السياسية الحاكمة، ومطالبات بتوسيع قاعدة صنع القرار في دولها، وتحسين أوضاع الطبقات العاملة. وقاد معظم هذه الثورات تحالفات بين الطبقات الوسطى والعمال والقوى الإصلاحية، ساعدها في ذلك التحول التكنولوجي آنذاك، وتمثل في انتشار الصحافة التي ساعدت في رفع درجة الوعي السياسي لدى الناس. لكن هذه الثورات لم تصمد طويلا، وفي غضون سنة، تمكنت قوى الوضع القائم من تنفيذ ثورات مضادة والعودة إلى الوضع القديم؛ فدحرت هذه الثورات من دون الانتباه لمعالجة التحديات التي أدت إلى قيامها.
هل يبدو هذا الكلام مألوفا؟ بالطبع. ما أشبه اليوم بالبارحة! مع فارق أن قلة في منطقتنا تعتبر من دروس التاريخ.
يستطيع المرء أن يتخيل الحجج التي ساقتها قوى الوضع القائم آنذاك، يوم دحرت تلك الثورات؛ مرحليا: ألم نقل لكم؟.. لقد مات الربيع الأوروبي.. هذه ثورات من العامة التي لا تعرف ماذا تريد، والتي لم تأت إلا بالفوضى وعدم الاستقرار.. اتركوا الأمر لنا، نحن وحدنا نعرف كيف نسيّر الأمور، ولا بأس إن استفدنا من بعض الامتيازات، فهي أفضل من الفوضى.
تأخرت الثورات الأوروبية في تحقيق نتائج فورية، لأن الاحتجاج في الشارع من دون تحويله إلى بناء المؤسسات الكفيلة بترسيخ الديمقراطية المستمدة من إرادة الشعب، يحتاج إلى وقت طويل، كما هي الحال عندنا تماماً. لكن هذه العملية لم تعتمد على من لا يريد الإصلاح أصلا، بل تمت بلورتها على مراحل بالرغم من المقاومة الشرسة لقوى الوضع القائم. وبالطبع، لم تعد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورات الأوروبية؛ إذ إن هذه الثورات بدأت بترسيخ مفاهيم جديدة، من مثل أهمية القواعد الشعبية، وحقوق الفرد والمرأة. كما أنها أدت إلى إنهاء الأنظمة الإقطاعية وأنظمة العبودية في أوروبا. ومن أهم نتائجها، أنها ساهمت في إحياء الوعي السياسي لدى العامة؛ فبدأت أعداد أكبر من الناس تعي أهمية السياسة في حياتهم اليومية، ما أدى إلى ازدياد كبير في المشاركة السياسية والتنظيم الشعبي، وظهور الصحف المتعددة الاتجاهات. كما بدأت أفكار جديدة -كانت تعتبر هدامة- بالانتشار، كالديمقراطية والليبرالية السياسية.
ينظر البعض إلى العام 1848 على أنه دليل على فشل الحركات الشعبية. وهم بذلك يتفقون مع من يبشروننا بأن “الربيع العربي” انتهى. بينما ينظر آخرون إلى أحداث ذلك العام على أنها كانت اللبنة الأولى التي أرست قواعد المجتمع الأوروبي الحديث، وأدت إلى مجتمعات حية، مستقرة مزدهرة، تعددية ومتجددة. الفصيل الأول يريد شدنا إلى الوراء، فيما الفصيل الثاني يعي أن الاستقرار والازدهار لا يأتيان بين ليلة وضحاها، بل يتطلبان عملا شاقا على مدى عقود؛ كما أنهما لا يأتيان بالتقوقع والتشبث بالامتيازات، وبماض لا يمكن أن يستمر.
تطور البشرية، والتقدم التكنولوجي، والعلم ووعي الناس، تعني أننا قد لا نحتاج إلى ما تطلبه الأمر من الأوروبيين لتطوير أنفسهم. ولكننا بحاجة إلى كتلة حرجة من إصلاحيين ذوي نفس طويل، ونظرة مستقبلية، واستعداد للعمل الذي يعتمد قواعد شعبية، كما فعل ذلك الأوروبيون قبل أكثر من مائة وخمسين عاما.
مروان المعشر/1848
11
المقالة السابقة