ومن نكد الدنيا على السوريين أن روسيا التي دعمت النظام السوري بكل أنواع السلاح والمال كي يقتل الشعب، ويشرده، ويدمر البلاد، ويقمع الثورة ليبقى حاكماً ولو على حطام الوطن، هي من تتنطع الآن لإيجاد حل للأزمة السورية. إنه العهر السياسي في أحقر أشكاله. لم ينس السوريون، ولن ينسوا السفير الروسي في مجلس الأمن الدولي وهو يستخدم الفيتو، المرة تلو الأخرى، ضد أي تحرك دولي لوضع حد للمأساة السورية. لن ينسوا ذلك الفيتو الذي، وإن كان بالتواطؤ مع أمريكا، إلا أنه كان دائماً يحقن النظام المتهالك بجرعة جديدة من الوحشية ليستمر في صلفه وعناده وهمجيته التي أدت إلى تهجير أكثر من نصف الشعب السوري وتدمير وطن كان اسمه سوريا بدعم روسي لا تخطئه عين.
لن ينس السوريون أن روسيا، وعندما وجدت أن النظام قد يتضرر من عقاب دولي بعد استخدامه الفاشي للسلاح الكيماوي، عملت كل ما بوسعها لتسليم السلاح الإستراتيجي السوري لأمريكا لتنقذ رقبة الأسد، وتعطيه مزيداً من الوقت كي يمعن في تدمير سوريا وتشريد شعبها.
والآن وبعد أن وجدت روسيا أن خطتها لفرض النظام على السوريين بالقوة الغاشمة قد فشلت، راحت تحاول إيجاد حل لا يحقق مطالب الشعب السوري، بقدر ما يحاول الحفاظ على ما تبقى من النظام، بعد أن وجدت أن جيش الأسد قد تلاشى، وأن وضعها الاقتصادي والسياسي في العالم لم يعد يساعدها كثيراً في الحفاظ على آخر مستعمرة لها في الشرق الأوسط.
لا أحد يمكن أن يعارض حلاً مقبولاً للكارثة السورية، لكن لا يمكن لسوري يمتلك قليلاً من العقل أن يثق بالنوايا الروسية الجديدة لحل الأزمة، لأن موسكو تعلم علم اليقين أن ذهاب بشار الأسد سيجعلها تفقد أغلى ما تملك في المنطقة، خاصة أنه منحها عقود نهب الثروات السورية، من غاز ونفط، لربع عقد قادم مقابل دعمه بالحديد والنار كي يبقى في الحكم حتى لو خلت سوريا من شعبها، ولم يبق فيها سوى النظام وعصابته.
وبالمناسبة كل عمليات تدمير المدن في سوريا كانت على الطريقة الشيشانية. فلو قارنا عملية تدمير مدينة حمص لوجدناها نسخة طبق الأصل عن الطريقة التي استخدمها الرئيس الروسي بوتين لتدمير عاصمة الشيشان جروزني. ومن يضع الخطط التدميرية لنظام الأسد لا يمكن أن تتوقع منه حلاً يرضي السوريين. واللعبة الروسية الجديدة لا تحاول وضع حد للمحنة السورية بقدر ما تحاول أن تضحك على بعض المعارضين السوريين، وتغريهم ببعض المكاسب الحقيرة كي تمعن في إجهاض الثورة، وكي تستعدي العالم على كل من يحاول لاحقاً معارضة النظام، ولو بالكلام. وإذا أردنا أن نلخص الطريقة التي تتعامل من خلالها روسيا مع المعارضة السورية المزعومة، يمكن أن نسردها في النكتة التالية:
يُحكى أن شخصاً التقى بفتاة في الشارع، فأعجب بها، ثم سألها إذا كان ممكناً أن يواعدها، فغضبت الفتاة غضباً شديداً، وبصقت عليه، لكنه سرعان ما عرض عليها ألف دولار كمقدمة، فرفضت رفضاً قاطعاً، ثم عرض عليها خمسة آلاف دولار، فرفضت أيضاً، ثم عرض عشرة آلاف دولار، فرفضت، فقال لها: “ما رأيك بخمسين ألف دولار”، فصمتت الفتاة قليلاً، ثم قالت: “لا بأس”. عندها قال لها الشاب: “حسناً، فلنجلس ونتفاوض”، فجلست الفتاة، فقال لها الشاب: “عليك أن تعترفي الآن أولاً أنك قابلة للبيع والشراء، كي لا نقول شيئاً آخر، وبالتالي سأتعامل معك على هذا الأساس، انسي السعر الأخير، وتعالي نحكي بزنس بشكل واقعي”.
وهكذا يتعامل الروس ويضحكون على بعض “المعارصات” السورية. وعدوا بعض المعارضين وعوداً كبيرة كالتخلي عن الأسد وغير ذلك، وعندما وافق بعض المعارضين على التفاوض، قال لهم الروس ما قاله الشاب لتلك الفتاة في الشارع: يعني بما أنكم قابلون بالتفاوض: تعالوا نتفق على السعر، وانسوا الوعود الكبيرة، التي أغريناكم بها كي تقعوا في شباكنا.
هذه هي قصة الوساطة الروسية لحل الأزمة السورية، يريدون الضحك على بعض المعارضين وتصويرهم على أنهم يمثلون الشعب السوري، بينما هم لا يمثلون سوى أنفسهم، ولا يمونون على أحد على الأرض، وقوتهم عسكرياً تكاد أن تكون صفراً. ثم تذهب روسيا إلى الأمم المتحدة لتقول للعالم: لقد وافقت المعارضة السورية على الحل، وبالتالي فإن كل من يعارض النظام، أو يتصدى له على الأرض من الآن فصاعداً هو إرهابي خارج عن طاعة الموالاة والمعارضة، ولابد من تجريمه وتجريم كل من يدعمه بقرارات دولية تحت البند السابع.
إن الوساطة الروسية بين النظام السوري والمعارضين السوريين تشبه تماماً الوساطة الأمريكية بين إسرائيل والفلسطينيين. هل كانت أمريكا في يوم من الأيام نزيهة في وساطتها بين ربيبتها إسرائيل والفلسطينيين؟ بالطبع لا، فهي الخصم والحكم بالنسبة للفلسطينيين. وكذلك الأمر بالنسبة لروسيا والنظام، فالعلاقة بين موسكو والأسد كالعلاقة العضوية بين إسرائيل وأمريكا. وبالتالي على السوريين أن يسألوا أنفسهم: ماذا جنا الفلسطينيون من وراء قبولهم بالوساطة الأمريكية بينهم وبين إسرائيل على مدى عقود؟ لا شيء غير الضحك على الذقون.
وكذلك السوريون، فإنهم إذا وثقوا بالوساطة الروسية بينهم وبين النظام السوري، فلن يحصدوا سوى الخيبة التي حصدها الفلسطينيون من أمريكا.