مع نهاية العام الجاري 2014، تكون مأساة مخيم اليرموك الفلسطيني الواقع إلى الجنوب من مدينة دمشق، قد دخلت عامها الثالث، حيث ما زالت الغالبية لعامها الثالث، مخيم اليرموك الفلسطيني الواقع إلى الجنوب هجرة إلى الدول الأوروبية. ظمى من سكانه ومواطنيه تائهين في تغريبة جديدة فاقت بتداعياتها ونتائجها السلبية نكبة العام 1948. فضلًا عن النزوح المشابهة لأعدادٍ كبيرة من المواطنين عن تجمعاتهم السكنية في مخيم حندرات قرب مدينة حلب، ومخيم درعا، إضافة لمخيمي السبينة والحسينية في ريف دمشق.
هنا، لا بد من التذكير بأن الشعب الفلسطيني في سوريا قد اشتق لنفسه منذ بداية الأحداث في الأزمة السورية الداخلية، موقفًا متوازنًا، أخلاقيًّا، ووطنيًّا، وقوميًّا في الوقت نفسه، وقد بنى أَعمدة موقفه بإجماع وطني بالرغم، حيث استوجب ضغط الناس من الجميع بناء الموقف المتوازن إياه، انطلاقًا من المصلحة الوطنية العامة لعموم الشعبين الشقيقين السوري والفلسطيني، اللذين ربطتهما على الدوام علاقة أكبر من أن تفرق بينهما، فهما في نهاية المطاف شَعبٌ واحدٌ في بلاد الشام التي قسمها وفرقها الثنائي (سايكس ـ بيكو) عام 1916.
ولكن الطامة الكبرى أن ضياع المرجعيات كانت من أبرز الاستخلاصات الأولية لمحنة فلسطينيي سوريا، حيث لم تترك الحياة اليومية لأبناء مخيم اليرموك الفلسطيني في سوريا بصماتها المعتادة على حياتهم اليومية فقط، بل تعدت ذلك لتَصنَعَ هذه الأيام نمطًا جديدًا معاشًا في ظل واقع الأزمة العامة التي تمر بها سوريا، وقد باتت فلسفة عموم الناس من فلسطينيي سوريا تتمحور حول الدور المنوط باللاجئين الفلسطينيين تجاه عموم إخوتهم السوريين في معمعان تلك الأزمة والمحنة التي تمر بها سوريا والشعب السوري عمومًا، وفي الوقت ذاته الحفاظ على وجودهم والتخفيف من الأضرار المتوقع لها أن تلحق به جراء ما يجري، والحفاظ على اتجاه بوصلتهم الوطنية.
نشبت وما زالت، تباينات فصائلية في البيت الفلسطيني في سوريا تجاه الدور الفلسطيني المطلوب، فقد تَبَنّت كل القوى الفلسطينية موقف الإجماع الوطني العام الذي يقول بخطوطه العريضة بضرورة “الحياد الإيجابي والنأي بالنفس” عن مفاعيل الأزمة الداخلية السورية، والتركيز على الدور الاجتماعي الإيجابي للفلسطينيين في سوريا تجاه عموم السوريين، انطلاقًا من الحرص على سوريا ووحدتها، والعمل من أجل معافاتها وبلسمة جراحها وخروجها من الأزمة.
ولكن، وفي ظل هذا الموقف الفلسطيني المُتسم بالحكمة والتعقّل، والذي لم يرُق للكثيرين، نَشُطَ أصحاب الأجندات، أصحاب اللثام الأسود الحاقد خلال الفترة الأخيرة في أعمال الاغتيالات في مخيم اليرموك الواقع جنوبي مدينة دمشق، وهي الاغتيالات التي طالت كوادر من مختلف القوى والفصائل الفلسطينية، ومن الناشطين في مجال العمل الإنساني والاجتماعي من المستقلين، ومن العاملين من أجل بلسمة جراح مخيم اليرموك وأهله ومواطنيه من سوريين وفلسطينيين أبناء الشعب الواحد، ومن العاملين على مساعدة الناس على تلمس دروب الحياة الصعبة التي يعيشها أبناء الشعب الفلسطيني والسوري داخل مخيم اليرموك وخارج اليرموك في ظل المحنة المستمرة منذ أكثر من عامين، تلك المحنة التي فاقت بتفعيلاتها وتداعياتها نكبة وتغريبة العام 1948 وأهوالها.
نَشط خفافيش الظلام، مُعتقدين بأنهم سيدفعون بفلسطينيي سوريا نحو نسيان قضية العودة والتفكير بالهجرة الجماعية لأصقاع المعمورة. فكان ما تعرض له الوجود الفلسطيني على أرض الوطن الشامي الكبير من خلال مأساة مخيم اليرموك، ومخيم درعا، ومخيم حندرات، ومخيم السبينة، ومخيم الحسينية … ونسوا في الوقت نفسه أن الشام وطنهم الثاني، وطنهم السوري الكبير، حيث فلسطين إقليمه الجنوبي.
لم يسبق أن تعرض مخيم اليرموك لمحنة شبيه، محنة الاغتيالات الغادرة، ولم يكن للحاقدين من خفافيش الظلام أي مجال للعمل الخسيس في مخيم اليرموك طوال تاريخه، حيث لم يُسجل في تاريخ مخيم اليرموك سوى عملية اغتيال واحدة وقعت عام 1994 حين اغتالت مجموعة ما كان يُعرف بـ(فتح/المجلس الثوري) برئاسة صبري البنا (أبو نضال) الشهيد الدكتور محمد عابد شعبان الخطيب في عيادته في المخيم.
لقد ودع مخيم اليرموك عددًا من شهداءه، من أبنائه الميامين الذين سقطوا غيلة وغدرًا بأيدٍ خسيسة وجبانة، مُتخمة بالنذالة، لا ضمير لديها، وكان آخرهم الشهيد محمد قاسم طيراوية (أبو أحمد) شقيق الشهيدين سعيد قاسم طيراوية، وعلي قاسم طيراوية، وعضو لجنة إقليم حركة فتح في سوريا، وأحد العاملين والمفاوضين الأساسيين في مبادرات تحييد مخيم اليرموك وإخراجه من براثن الأزمة، والذي اغتيل قبل أيام في مخيم اليرموك.
سبق اغتيال الشهيد محمد طيراوية اغتيال الشهيد محمد عريشة (أبو العبد)، والشهيد علي الحجي، والشهيد أبو العبد زيدان، واستشهاد جعفر محمد، وخليل زيدان، ويوسف خطاب (أبو خطاب)، وعبد الكريم الشهابي، وفاتنة عويتي …. وغيرهم من شباب وشابات مختلف القوى والفصائل ومن المستقلين ومن عامة الناس…
لقد كان في وجدان وفؤاد كل هؤلاء الشهداء، ومعهم شهداء فلسطين في محنة اليرموك ومحنة سوريا بشكلٍ عام، أن ينالوا الشهادة على أرض فلسطين، حيث تقع قراهم ومدنهم، لا أن يُغتالوا غيلة وغدرًا على يد خفافيش الظلام.
لقد كُتِبَ على الشعب الفلسطيني في سوريا أن يعيش المحنة، وكُتِبَ عليه الصبر، فالصبر وإن طال فإن بواعثه ستطل عليه ليسدل الستار على تلك المحن التي ما زال يعيش فصولها. فخرج في تشييع شهداء الاغتيالات ليقول لخفافيش الظلام: إذا أردتم قتلنا، فاقتلونا في صدورنا، ولا تضعوا قناع الجبناء …
علي بدوان/أجندة وراء الاغتيالات
16
المقالة السابقة