عروبة الإخباري – كتب زهير توفيق
أربعون عاما تفصلنا بهذا الكتاب عن الكتاب الأول الذي أصدره د. إبراهيم بدران «دراسات في العقلية العربية» سنة 1974، وبين الكتابين أربع وعشرون كتابا توزعت على الثقافة والسياسة والسوسيولوجيا والفكر العربي والهندسة والاقتصاد والطاقة، إضافة الى عشرات، بل مئات المقالات والأبحاث وأوراق العمل في الندوات والمؤتمرات العلمية والفكرية في الأردن والبلاد العربية والعالم وما زال د. إبراهيم على رأس عمله مستشارا لرئيس جامعة فيلادلفيا للشؤون والعلاقات الدولية، إضافة لعدة مهام إدارية، وما زال دائم النشاط والعمل على صعيد الكتابة والتأليف، فهو صانع أفكار لا يكل ولا يمل دائم العصف الذهني واستمطار الافكار والتساؤل، تراه مشغولا يتابع كتابا تحت الطبع ويعكف على تأليف كتاب آخر أصبح في مراحله، الأخيرة وفي نفس الوقت يفكر بكتاب وموضوع جديد، ناهيك عن اللقاءات والاستشارات بما فيها المحطات الإذاعية والفضائية للحديث عن الوضع الراهن ومستجدات السياسة وتطوراتها.
د. إبراهيم صاحب رسالة أكثر من كونه صاحب مشروع فكري مغلق، ولهذا تراه يعيد ويكرر مقولاته ويرددها في كل كتبه ومقالاته لعل وعسى تحقق غاياتها بالتغير والتقدم، فمقولاته الأساسية تتركز على النهوض والإنتاج الصناعي والديمقراطية والمعرفة العلمية الابتكارية والتقدم والعولمة، وتسحره تجارب الأمم الناجحة التي قامت من لا شيء وحققت المعجزات الاقتصادية كالنمور الآسيوية وايرلندا وكوريا الجنوبية وغيرها.
يصر د.إبراهيم على التحليل الكمي المرافق للتحليل النظري التاريخي للمشكلة سواء كانت اجتماعية او اقتصادية أو تربوية. وحتى لو كانت قضية تاريخية مجردة كالنهضة والتقدم لتحقيق صدمة رقمية للمواطن والمسؤول لفهم الفجوة الحضارية بالفجوة الرقمية بين الدول النامية والدول المتقدمة لعله يمعن النظر بخطورة الوضع ، وعلى هذا الأساس قدم أفكاره في إطار الثقافة العلمية لتقريب رسالته لأوسع قطاع ممكن من القراء والمسؤولين المختصين وغير المختصين، وبتشكيل رؤية مستقبلية ويقظة معرفية لإمكانيات الواقع ومخاطره كشرط مسبق لتحقيق التقدم. وهو لا ينكر انه ليس مختصا او اختصاصيا في هذا المجال او ذاك حتى يغوص في دقائق الأمور، بل هو مفكر صاحب رؤى إستراتيجية ومستقبلية كلية قادر على طرح أفكار مبتكرة وجريئة وقابلة للتحول إلى أفكار تداولية عملية في هذا القطاع او ذاك.
تشكل الأرقام والإحصاءات والنسب أهمية فائقة في كل ما يكتبه او كتبه د. إبراهيم، وفي كتابه الأخير هناك مئات الإحصائيات والنسب والأرقام الدالة على ما يقول وما يحلل، وهو ما أعطى المتلقي والقارئ إمكانية الفهم والتمثل والتأمل بالواقع وبالمفارقات والفجوات الفاصلة بين التخلف والتقدم وما بين الأنا والآخر.
يمارس د. إبراهيم نقده وتحليله للتجربة الاقتصادية الأردنية مستعينا بخبرة واسعة وعميقة بمفاصل الدولة والاقتصاد والسياسة والإدارة الأردنية . لكنه من خلال نقده وتحليله لا يحمل أجندة ايدولوجية مسبقة، بل هو ضد النقد الايدولوجي والحلول الايديولوجية، ويعمل جهده على جعل نقده للواقع نقدا بناء، أي طرح المشكلة وتحليلها ورسم الحلول وتقريب البدائل، ويتصف هذا النقد بالطابع التحليلي المقارن، حيث تشكل نجاحات الدول المتقدمة والصاعدة والنامية تجارب ملهمة للأردن التي يتصورها د. إبراهيم ذات خصائص متشابهة مثل كوريا – ماليزيا – اندونيسيا – سنغافورة …. الخ. ولا يتوقف عند أمثلة النجاح والتفوق، بل يشير لتجارب الفشل والإخفاق في اليونان والأرجنتين وغيرها للاتعاظ وحماية الأردن والاقتصاد الوطني من ذلك المصير فيما لو بقيت الأمور على ما هي عليه من تراخي بالإصلاح والتخطيط قصير النظر في التركيز على قطاعات اقتصادية غير إنتاجية.
يقسم الكتاب الذي صدر عن دار الشروق في عمان، هذا العام، إلى ستة فصول هي تداخلات اقتصادية عالمية ومن تجارب الامم، في الاقتصاد الوطني، الصناعة والطاقة، المرافق والقطاعات، الزراعة.
دور الدولة
يعير د. إبراهيم للمجتمع والطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا اهتماما بالغا لحمايتها من التدهور، ويرفض الاقتصاد والإجراءات الاقتصادية المفصولة عن المجتمع همومه، ويدعو لتأسيس فكر اقتصادي وطني قادر على الإبداع والابتكار وتقديم الحلول لتحريك المجتمع وتأهيله وتخليصه من التخلف، ويصر على كلمة التخلف رغم انه لا يعير المفاهيم الايدولوجية أهمية تذكر، وفي معرض حديثه عن الأزمة المالية التي عصفت بالدول الصناعية 2008 وتأثيراتها على الدول النامية، يذكر، وهو دائم التذكير بالتجربة القاسية وضرورة التعلم منها في الدول النامية التي فهمت طبيعة الاقتصاديات الحديثة فهما خاطئا ومغلوطا ، كون المرحلة الأخيرة من التطور في الدول الصناعية ( الخدمات واقتصاد المعرفة والتجارة المالية ) تلغي المراحل السابقة الأساس وتحل محلها، وان التعامل بالمال كسلعة كاف بحد ذاته لبناء الاقتصاد، وهذا كما يقول وهم وخداع يقع السياسيون والاقتصاديون كما تقع فيه الدول )) . ص 35 . والأساس المتين كما يقول لأي اقتصاد حقيقي وقوي هو الزراعة والصناعة .
يتطلب استلهام التجارب والتعلم منها ابتكار نموذج وطني خاص وليس تقليد نموذج قائم (او نسخ الممارسات الدولية وهرولة الاندماج بالسوق العالمي ) ص 12 . أما الخصخصة التي شغلت الكتاب فقد شكك د.إبراهيم بطرائقها المتبعة وبنتائجها وأسبابها ما دامت تتم في ظل غياب المساءلة والشفافية والوضوح ودعا الى إعادة النظر بالموضوع بالكامل ، فلا تعني التخاصية بيع القطاع العام لمن هب ودب، والأصوب لمصالح الأردن والأردنيين العليا هو استلهام الاقتصاد الاجتماعي وتمليك المواطن العادي تلك المؤسسات بتحويلها الى شركات مساهمة، ويرتبط بالخصخصة موضوع العولمة وتوصيات صندوق النقد الدولي، وبيع القطاع العام وانسحاب الدولة من مهامها.
التوصيات والخصخصة
يرفض د.إبراهيم تلك الإجراءات والتصورات كما هي متبعة معتبرا (دور الدولة كان وسيبقى محوريا في بناء الاقتصاد، وفي الحفاظ على مؤسساته وفي أمان ورفاهية المجتمع …ان على الدولة ان تعزز دورها التاريخي ومسؤولياتها بالانتقال بالمجتمع إلى مرحلة الدولة الصناعية ) 45-46
ويلح على هذا الجانب نظرا لخطورته وللفهم المغلوط الشائع للخصخصة والعولمة والليبرالية ، فلا يعني اقتصاد السوق كما يقول عدم تدخل الدولة .
ان الدروس التي يجب ان نتعلمها من أزمة كبيرة كالأزمة المالية 2008 ولحماية الدول النامية والأردن منها هو :
1 – مراقبة أداء البنوك
2 – دعم المشاريع الصغيرة
3 – التركيز على التأهيل والتعليم
4 – العودة الى الزراعة
5 – الصناعة وتصنيع الاقتصاد
6 – تقويض سلطة المال والإدارات العليا
7 – استعادة دور الدولة وإعادة النظر بالخصخصة
يتطلب الرد على تصورات الخصخصة تبني نموذج الاقتصاد الاجتماعي الذي يولي صغار المنتجين والمواطنين والمشاريع الصغيرة أهمية بالغة ، فالتخاصية المثلى كما يقول د.إبراهيم بدران : هي التي تتيح المجال للشرائح المختلفة من المجتمع نفسه تملك هذه الأصول بطريقة جديدة )) ص 47
اما المنتوج المحلي فيتطلب حماية ، ولا يتردد د.ابراهيم برفض توصيات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وإصدار القوانين الحمائية لحماية الاقتصاد الوطني ، والمنتج المحلي رغم مخالفتها لاتفاقية التجارة الدولية. ص 51 .
أما تعليمات البنك الدولي فلا يرى فيها قدرا لا يرد نظرا للآثار السلبية الاجتماعية التي حدثت في الأردن من جراء الخصخصة والتوصيات الدولية التي تبتز الأردن بالديون والقروض، فيقول ما قاله الحريري في معرض الحديث عنه أن القروض والمساعدات لا تبني اقتصادا أو تحل مشاكله ، والأفضل الاعتماد على الذات .
أما موضوع الشريك الإستراتيجي في المؤسسات الكبرى فيرى د.إبراهيم فيه كذبة كبرى ، فما هو في النهاية إلا (( مكتب مالي أو مكتب وساطة مالية او تجارية او شركة حديثة تم تأسيسها لتأخذ دور الشريك الإستراتيجي ولا علاقة له أو لها بالتكنولوجيا او الهندسة او العلم او الخبرة )) ص 159
وما ينطبق على الشريك الإستراتيجي ينطبق على مفهوم المستشار الأجنبي ، ويتساءل د.إبراهيم : أليس الأردن مؤهلا لإدارة موارده (( لقد أصبح التمكن التكنولوجي الوطني في خطر )) ، وما الداعي إلى كل هؤلاء المتعلمين والفنيين والأكاديميين والجامعات في الأردن إذا بقينا رهن الخبير الأجنبي ؟! إن التقدم أو التخلف موضوع إرادة وتخطيط وعزم على النهوض وليس له علاقة بحجم الدول ولا بتوفر المواد الخام ، فهناك دولا صغيرة لا تمتلك الموارد فاقت التوقعات وحققت المعجزات الاقتصادية ، وليس الأردن استثناء من ذلك إذا استلهم نقد التجارب وعزم على التقدم . وفي هذا السياق انتقد د.إبراهيم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، فهو لا يجد في عملها لا بحثا ولا استمرارا حقيقيا في البحث ، وما زالت الوزارة مشغولة بالشكليات الخاصة في بالبحث العلمي.
شفافية
تشكل الشفافية والديمقراطية ومكافحة الفساد مداخل ضرورية للتقدم والنهوض (( ورغم اعتبار الحكومة صاحبة الولاية ، لكنها ليست مطلقة ولا ينبغي ان تتعامل معها كذلك، وكل قرار له علاقة بالمصلحة العامة ينبغي ان يقوم على قواعد رئيسية أربع، وهي : المشاركة / الشفافية/ الرؤية المستقبلية /الدستورية . ص95 . ولا يتصور د. إبراهيم بديلا للنهوض الاقتصادي والوطني بدون الصناعة، ولا بديل عن الاهتمام بالزراعة لتحقيق الأمن الغذائي بموارد وطنية ، ولا يتصدى لتلك المشاكل والقضايا إلا ببدائل وحلول إجرائية وواقعية مستمدة من الاقتصاد المجتمعي والحفاظ على دور الدولة المجتمعي والتنموي وضرورة القيام بواجباتها ومسؤولياتها في التعليم والصحة والخدمات الأخرى. لم يكن د.إبراهيم ليبراليا جديدا كما يتصوره البعض، فتأكيده على دور الدولة والاقتصاد الاجتماعي والحفاظ على التأمينات الاجتماعية وتطويرها كالتأمين الصحي والسكن والتعليم أمور تعيده وتعيدنا معه الى دولة الرفاه والليبرالية الاجتماعية، او الديمقراطية الاشتراكية في شمال أوروبا وألمانيا.
وبطرحه الحلول والبدائل اكتسبت لغته التحليلية طابعا توجيهيا مباشرا ، فهو معني بالأفكار الواضحة وليس للوصول الى الهدف المنشود بأقصر الطرق .
فهو غير معني بالنقد من اجل النقد او الاكتفاء بالتحليل ، بل هو معني بالحلول الإجرائية الواقعية وليس بالحلول الايدولوجية او المواقف العدمية التي تكتفي بالنقد ، فحلوله نابعة من المشكلة نفسها ، فحلوله للصناعة والمياه والطاقة والزراعة والإسكان حلول نابعة من طبيعة المشكلة ، ومن صميم الواقع المعاش ، أما الهروب إلى الأمام وتقديمه كحلول كما تفعل الحكومة فليس من الواقع في شيء ، فليس الانتعاش الاقتصادي في سوق العقار والمال حلا للاقتصاد ، وليست الطاقة النووية حلا لمشكلة الطاقة في الأردن ، وليس مشروع الديسي حلا لمشكلة المياه ، والحل المرضي عند د.إبراهيم هو الحل الاستراتيجي بعيد المدى الذي يأخذ بالاعتبار الحاجات الراهنة والموارد والتوقعات المستقبلية للسكان والمجتمع والاقتصاد.
تخطيط بعيد المدى
دور الإشكالية الكبرى في الاقتصاد الوطني تتمثل في غياب إستراتيجية دولة لتصنيع الاقتصاد بحيث تكون هذه الإستراتيجية بسياستها وبرامجها ومؤشرات الأداء فيها هي المعيار الحقيقي لنجاعة القرار وحسن توقيته بدلا من الجري وراء سراب الجزئيات وعدم القدرة على إحداث التغيير )) . ويرى ان التغلب على الأزمة الاقتصادية وهي أزمة ثقيلة لا يمكن التغلب عليها إلا بشراكة واسعة المدى تضم الدولة والقطاع الخاص والخبير المحلي والمجتمع المدني والقطاع الاكاديمي ، وتخطيط بعيد المدى للواقع والمستقبل ، أما الإجراءات قصيرة المدى فلا تؤدي إلا إلى اتساع ما يسميه الفجوة التحميلية أي الحد الأقصى الذي يمكن للمواطن تحمله من مشكلات تثقل كاهله كالغلاء والفقر وتدني الرواتب، مما يؤدي الى (( وصول المواطن محدود الدخل إلى نقطة الانكسار )) .
لا يقدم د.إبراهيم نقدا متطلبا ، فهو في تحليله ونقده ينطلق من تقييم واقعي لإمكانيات الدولة الأردنية وطبيعة التزاماتها الخارجية ، وبالتالي فهو ينطلق من واقعها وليس من ماضيها او مستقبلها ، فالمستقبل هاجسه ويتطلب تحليلا واقعيا للحاضر ورصد آفاق تحوله سلبا او إيجابا ، ولذلك فهو لا يطالب الدولة الا بما يمكن أن تتحمله ، وما كان في استطاعتها ، وفي نطاق هيبتها وسيادتها ، ولذلك فليس مستغربا منه أن يعترض على الخصخصة وتوصيات البنك الدولي ومنظمة التجارة إذا كانت في غير مصلحة الوطن والمواطن ، وحتى العولمة التي يقف معها ويدعمها ليست هي عولمة الأمركة ، بل العولمة أي المشاركة والانفتاح في الاقتصاد والثقافة العالمية .
لقد قدم د.إبراهيم « قراءات « للمسيرة الاقتصادية ، ولم يقل او يشير في العنوان الى طبيعة تلك القراءات لنستنتج من قراءة النص التغطية الواسعة المدعمة بالأرقام لمشكلات الأردن الاقتصادية ومعضلات التنمية والنمو في الحاضر والمستقبل ، فهي قراءة تتصف بالشمول والموضوعية والمباشرة ، فلم يكن بإمكانه كغيره التخفيف من عمق الأزمة او التقليل من تأثيرها على المواطن والمجتمع في حاضره ومستقبله ، فهاجسه ليس تبرير الواقع والحفاظ على الحاضر كما هو، بل هاجسه الأكبر التقدم والتغيير وبناء المستقبل بناء مطابقا لطموحات الإنسان بالتحرر والديمقراطية والعقلانية. فلا يوجد ما يمنع الأردن ومن هو في حال الأردن تحقيق معجزة اقتصادية كالنمور الأسيوية مثلا، وقد كانت في حال أسوأ من الأردن، إلا أنها امتلكت مشروعا وإرادة حرة لتحقيق ما تصبو إليه.