بعد عدة أيام تنعقد القمة الاعتيادية لدول مجلس التعاون، في العاصمة القطرية الدوحة، وتأتي هذه القمة في ظروف بالغة الدقة في مستويات عديدة، حيث تواجه المنطقة في الظرف الراهن الكثير من التحديات الجدية والصعبة، لاسيَّما الوضع المقلق في المنطقة عموما، بعد ظهور التيارات المتطرفة في عدد من الدول، وانخفاض أسعار النفط، والأوضاع المتردية في اليمن الشقيق، الأزمة القائمة بين الولايات المتحدة وإيران بسبب المفاعل النووي الإيراني والخلاف بينهما رغم التحركات الدولية واللقاءات بينما لإنهاء الخلاف، إلى جانب الأوضاع في المحيط العربي بعد الربيع العربي، حيث ما تزال آثاره قائمة ومتشعبة، من هنا فإن المنطقة في وضع ليس بالهين، لكننا نعتقد أن كل الأطراف تدرك مخاطر الانزلاق إلى عمل عسكري قد يخسره الجميع وليس دول مجلس التعاون وحدها، لذلك فإن الأهم ألا ننتظر ما يدار على هذه الساحة أو تلك بل على دول المجلس أن تتحرك وتنسق الجهود والمشاورات لتجنب الكارثة لا سمح الله. لأن الاحتقان في المنطقة وصل إلى الذروة ولا بديل عن التحرك السياسي الإيجابي في إيجاد حلول سياسية، سيما الأوضاع في العراق وسوريا، وفي الجانب الآخر لمجلس التعاون كمنظمة إقليمية فإن المتوقع أن تكون القرارات المتعلقة بتوحيد الكثير من القضايا الاقتصادية والاجتماعية، والاهتمام بقضايا شعوب المنطقة وتعزيز التعاون بصورة أكبر بين دوله، والأمور الأخرى التي تلامس المجتمع الخليجي، وقضاياه واحتياجاته الأساسية، وستكون لها الأولوية في الإنجاز والاهتمام. لكن الإشكالية أن الكثير من هذه القضايا تباطأت وتراجعت عن صدارة الاهتمام من خلال القرارات الصادرة عن المجلس خلال السنوات الماضية.
بالنسبة لمجلس التعاون فإن الكثير من الإنجازات تحققت في مجال التعاون الثنائي، والكثير من القضايا التي يختلف حولها لا تزال مؤجلة، وهذا ليس جديدا بعد مرور أكثر من 35عاما على قيامه، وإن الكثير من القرارات التي تهم تطور المجلس لا يرقى إلى مستوى طموحات شعوب المنطقة، خاصة في الإنجاز الحقيقي المرتجى والمؤمل، فالمجلس الآن في القرن الحادي والعشرين، قرن التحولات العملاقة والتغيرات الضرورية شئنا أم أبينا.. وقد يقول البعض إن دول المجلس واجهت عواصف خطيرة وتحديات كبيرة، ومتغيرات عالمية رهيبة جعلت الكثير من القضايا تتراجع عن الصدارة، وتتباين التوجهات نتيجة لهذه المتغيرات والتحولات السياسية والاقتصادية والأمنية. فقد تأسس المجلس والحرب العراقية الإيرانية قد بدأت في الاشتعال، وما إن خمدت هذه الحرب القاسية على البلدين الجارين المسلمين في عام 1988، إلا وواجهت دول مجلس التعاون المحنة الكبيرة في قيام النظام العراقي السابق بغزو الكويت واحتلاله 1990، وبعدها قامت حرب خليج الثانية لطرد العراق من الكويت وهي إحدى الدول المؤسسة لمجلس التعاون في القرن الماضي.
ثم بدأت القضايا الأخرى وآثار الحرب وتبعاتها الاقتصادية والأمنية. وعندما بدأ مجلس التعاون في لململة جراح هذه الحرب ومعاناتها على الواقع العربي عموما ويعود مرة أخرى إلى الاستقرار حتى بدأت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي جرّت مشكلات عديدة وتحولات أخرى في نظرة الولايات المتحدة والغرب للعرب والمسلمين ونظرتهم التعسفية والجائرة لقضاياهم وأحكامهم التعميمية غير العادلة، ومسّت هذه النظرة دول الخليج على وجه الخصوص باعتبار أن أغلب المنفذين لهذه الهجمات من مواطني بعض دول المجلس.
وتبع ذلك ما جرى عندما قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان واحتلاله ثم تهديد العراق وشن الحرب عليه واحتلاله ومازال المشكلات قائمة في هذا البلد العربي الكبير والمؤثر في محيطه الخليجي، وتتأثر هذه الدول بما يجري بشكل أو بآخر، والحقيقة أن هذه المعطيات حصلت وواقع لا يمكن نكرانه، لكننا نرى أنه بإمكان دول مجلس التعاون أن تتماسك وتعطي الألوية للتوحد وأن تتقارب أكثر لتكون أكثر قوة أمام الضغوط والتهديدات والتوترات الراهنة وغيرها من الوسائل التي لا تجعل هذه المنطقة مستقرة أو هادئة من العواصف السياسية والتصدعات الاقتصادية.
ومنذ انعقاد قمة التأسيس في 1981 والإنجازات التي توقعها المراقبون ضئيلة بالمقارنة بالتوقعات المبنية عليه، رغم التحديات التي تحتم هذه الإنجازات، وتحتاجها دول وشعوب المنطقة لتنفيذ السياسات المرتقبة لهذه الكتلة الخليجية في المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها من المجالات التي تتطلبها المرحلة واحتياجات الواقع المتغير خاصة في القضايا التي تمس المواطن الخليجي وتحسن من ظروفه الاقتصادية والاجتماعية، ورغم سمات التقارب والتشابه من اقتصادات دول المجلس في مجملها فيما يتعلق بمعايير نسب التنظيم وأسعار الصرف وتوافق السياسات المالية.
وإذا جئنا إلى مسألة الإصلاح الذي يتغنى به الجميع وفق رؤية الآخر أو العكس. فإن هذا الهاجس يعتبر مطلب الجميع في الوقت الراهن لإبعاد الإملاءات الخارجية التي تريد شروطها ونماذجها هو الذي تم اعتماده في الإصلاح المقبل حيث يعمل هذا التوجه الإصلاحي على تأسيس العلاقة الإيجابية في القضايا الداخلية لدول مجلس التعاون منها إصلاح الخلل السكاني في المنطقة، وإصلاح الخلل الإنتاجي القائم، والانتباه إلى الخلل الأمني وفق الظروف الجديدة بعد احتلال العراق، والالتفات إلى مطلب الديمقراطية وحقوق الإنسان وتفعيل دور المجتمع المدني باعتباره الدرع الحصين لمواجهة التطرف والإرهاب والجمود الفكري.
. وهذا لن يتأتى إلا عندما تكون هناك حركة للإصلاح فاعلة وعاقلة على الأرض وذات وجود ورؤية تعمل على كسب الأصدقاء وتنمية رأي عام حول مطالب إصلاح جذري من الداخل، وتنمي إرادة الإصلاح عند متخذي القرار في الخارج والداخل.
والحقيقة أن دول مجلس التعاون تملك الكثير من المقومات المهمة والمؤثرة في الجانب السياسي والثقافي والاجتماعي. وهذه كلها مؤثرات فاعلة للإصلاح الحقيقي البعيد عن الضغوط الخارجية، والتحرك البطيء داخليا،ً فدول المجلس تستطيع أن تتحرك ككتلة منسجمة وقوية وفق منظور عقلاني وإرساء حوار إيجابي بين الأطراف الخليجية لدفع عجلة الإصلاح الذاتي للإمام، والعمل على رفع سقف المشاركة السياسية النابعة من ذاتنا وقيمنا، وهذه الإنجازات الإصلاحية الحقيقية ستؤدي بلا شك إلى تقوية هذا المجلس وتصليب الجهة الداخلية وقطع الطريق على دعاة العنف والإرهاب،وإبعاد سعي الأطراف الخارجية لفرض نموذجها في الإصلاح. فالإصلاح في هيكلة المجلس وأسسه سيجعل هذا المجلس الأقوى صلابة أمام التحديات المقبلة.
إن مجلس التعاون قد نجح في أن يبقى مؤسسة ثابتة، وتجاوز مرحلة الاضطراب والتوجس من قضايا كثيرة، وأصبحت منظمة التعاون صلبة لها قاعدة من التماسك والقبول العام بأهمية قيامها وضرورة فاعليتها.
ويبقى أن تتخذ القرارات الشجاعة والقوية التي ترتفع إلى مستوى الظروف وتحديات الواقع فيما يتعلق بالإصلاح، وإنجاز المشاريع والاتفاقيات المؤجلة، وأن تتخذ الخطوات التي تلامس احتياجات الشعوب، وهو الرصيد الأقوى أمام المتغيرات والعواصف الفكرية والتكنولوجية.
إن مجلس التعاون مرّ عليه حتى الآن أكثر من 35 عاما على تأسيسه، وهذا العمر الكبير من المجالس والمنظمات الإقليمية عمر كبير بمقاييس الزمن وتحولاته، حيث شب جيل جديد من أبناء المجلس يتطلع إلى قرارات هامة وإنجازات تلامس الواقع والإسراع في اتخاذ القرارات الضرورية التي تتناسب وهذا الظروف وتقلباته المختلفة، خاصة أن الأوضاع في واقعنا ليست سهلة، والتحولات السياسية العربية وتعقيداتها الراهنة، تحتاج إلى مراجعة كبيرة وشاملة، وبالأخص تجاه المواطن في دول مجلس التعاون، والنظرة الواعية للجيل الجديد الذي له الكثير من الطموحات تجاه تحولات عصره، خاصة في الحياة الكريمة، وفي الحرية والديمقراطية والشفافية، وسيادة القانون، وغيرها من القوانين التي تعزز دور المجتمع المدني الخليجي، والاهتمام بطموحات الشباب في التعليم الجيد، وصياغة أنظمة إدارية موحدة تلبي متطلباته في العيش الكريم، وغيرها القرارات التي تلبي شعوب هذه الدول، وهذا ما نأمل تحقيقه من مجلس التعاون في هذه المرحلة.
عبدالله العليان/قمة الدوحة والتحديات المحيطة بالمنطقة
14
المقالة السابقة