منذ أن بدأت سلسلة الاعترافات البرلمانية الأوروبية بالدولة الفلسطينية، وآخرها البرلمان الفرنسي، كان هناك ما يشبه اللازمة الإخبارية في كل مرة يصوت فيها المشرّعون الأوروبيون على مثل هذا المشروع، ألا وهي التنويه مسبقاً وعلى نحو نمطي، بأن القرار رمزي وغير ملزم للحكومات المعنية، في محاولة لإظهار الاحتراف المهني والموضوعية من حيث الشكل، وتبهيت مغزى مثل هذه الاعترافات في الجوهر، والتغاضي عما تشي به من تحوّلات بالغة الأهمية في اتجاهات الرأي العام الأوروبي الذي ضاق ذرعاً بالعنجهية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة.
ولولا بقية باقية من ضرورات التوازن الإعلامي في مثل هذه التغطيات الإخبارية الببغائية، لكان لسان حال من لم ينفكوا عن جلدنا بعدمية الحراك الدبلوماسي، وبتهافت رمزية هذه الاعترافات، يقول إن الأمر سيان، لا يقدم ولا يؤخر، وإن المسألة لا تستحق المراهنة على حدوث تبدل محتمل في سياسات دول القارة العجوز، على المدى المنظور. وكأن البرلمانات في أعرق الدول الديمقراطية في واد، فيما حكوماتها في واد آخر، على نحو ما هي عليه الحال في الدول الشمولية.
غير أن أي مقاربة سياسية رصينة لفحوى هذه الاعترافات، التي تتم بأغلبية عددية ساحقة، ينبغي لها إدراك حقيقة أن كثيراً من أوجه الصراع التاريخي مع إسرائيل كان، وما يزال، يدور حول الرموز والقيم الرمزية، بدرجة لا تقل ضراوة عن الصراع حول الأرض؛ وأن خسائرنا الفادحة في المعركة الرمزية هذه، على مدى العقود الطويلة الماضية، قد منحت الدولة العبرية كل ما كانت تتطلع إليه من روافع معنوية وأخلاقية، ناهيك عن الدعم السياسي والمادي، لتحقيق تفوقها الحضاري ومراكمة مكاسبها العسكرية.
وتزداد الأهمية الاستثنائية لمثل هذه الإنجازات الرمزية من أنها تأتي في سياق اشتباك سياسي واسع، حلت فيه الدبلوماسية، ووسائل الإعلام والرأي العام، فضلاً عن القانون الدولي والشرعية الدولية، محل خيار الحرب، الذي لم يعد خياراً واقعياً للعرب جميعاً، بعد أن تفككت معظم جيوشهم، ودخلت بعض دولهم عتبة الدول الفاشلة، لاسيما في السنوات الأربع الماضية، الأمر الذي لم يعد فيه متسع لإدامة الصراع مع إسرائيل المتفوقة على جميع جيرانها من قبل وقوع هذه التطورات الكاسرة للتوازنات الهشة السابقة، سوى ساحة القتال على الرموز والمثل والمبادئ والقيم والصور، التي أخفقت إسرائيل مؤخراً في كسبها تباعاً.
وأحسب أن أثمن المضامين التي تنطوي عليها مثل هذه المكاسب الرمزية المتتالية، إيذانها بانقضاء عهد الرواية الإسرائيلية الرائجة، وتفكك صورة الضحية الأبدية، فضلاً عن كذبة الدولة الديمقراطية الوحيدة، وغير ذلك من الترهات التي أحسنت إسرائيل عملية تسويقها بكفاءة، خصوصاً في أوروبا؛ حيث برعت في تأنيب الضمير الأوروبي على الإثم النازي وابتزازه بمكر ودهاء شديدين، وذلك قبل أن تنجلي صورة إسرائيل مؤخراً كدولة استعمارية عنصرية باغية، تسابق نفسها بنفسها لإعادة إنتاج جنوب أفريقيا الموؤودة.
وليس من شك في أن هذه الاعترافات النوعية، الممهدة لاعتراف شبه مؤكد من جانب برلمان الاتحاد الأوروبي بعد نحو أسبوعين، بكل ما ينطوي عليه ذلك من دلالات أعمق من كونها رمزية، سوف تثقل كثيراً على قرار “الفيتو” الأميركي المتوقع في مجلس الأمن الدولي قريباً، وتدخل البيت الأبيض في مأزق أخلاقي غير قابل للتسويغ، عندما تجد واشنطن نفسها عارية من كل الغطاء السياسي الأوروبي الملائم للتستر على انحيازها التلقائي لوجهة نظر آخر احتلال في زمن ما بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، وعلى ابتذالها لكل تلك القيم والمبادئ والرموز والمثل المشتركة مع أوروبا.
لقد كانت أشد نقيصة اعترت تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل عامين، على الاعتراف بدولة فلسطين تحت الاحتلال، أن المئة وخمسا وثلاثين دول المصوتة لصالح فلسطين، كانت بمثابة كمية عددية وازنة، لكنها خالية من دسم الاعتراف الأوروبي النوعي اللازم لترجيح كفّة هذا التصويت سياسياً، وإكسابه بعض ما يستحقه من حيوية وفاعلية، وما يقتضيه من استحقاقات رمزية فوق معنوية، أحسب أن هذه الاعترافات المتوالية من جانب البرلمانات الأوروبية، سوف تنهض بها لتحقق التوازن النوعي المطلوب، ومحاصرة الانحياز الأميركي الأعمى، بل وتقويض مبرراته الأخلاقية والسياسية.