إدراك المقاصد والأهداف الحقيقية وراء زيارة الوفد الحكومي العراقي إلى السعودية قبل أيام لا يحتاج إلى عناء كبير. رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي يسعى إلى تطبيع العلاقات مع دول عربية خليجية وكسر طوق العزلة بهدف تحقيق العديد من الأغراض والفرصة مواتية إذ لا صوت يعلو على صوت الحرب على الإرهاب في العراق وسورية ودول مجلس التعاون الخليجي التي باتت شريكة في التحالف الدولي الذي تشكل لإدارة هذه الحرب.
لكن السؤال: هل كانت الزيارة سابقة لأوانها؟ أما كان المفروض بداية إصلاح ما فسد في الداخل قبل معالجة ملف الخارج، حيث الجفوة والعزلة التي يعيش في ظلها العراق منذ ما يقرب ثماني سنوات تعود في الغالب لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية الكارثية لنوري المالكي إلى جانب تفضيله أن يغرّد العراق بصوت نشاز خارج السرب العربي ويكرّس محور طهران – بغداد – دمشق بديلاً نقيضاً للأمن القومي العربي.
عرض رئيس الجمهورية فؤاد معصوم رغبة حكومة بغداد في الانفتاح على أشقائها الخليجيين كما عبّر عن قلقه لتنامي ظاهرة الإرهاب والحاجة إلى تعزيز التعاون العربي والدولي للحدّ من هذه الظاهرة وناشد السعودية التعاون مع العراق في هذا المجال، كما استمع إلى ملاحظات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حيث أشار إلى أوضاع العراق المؤسفة وسبل العلاج. تحدّث الملك عن التحدي الأمني الخطير الذي يواجه العراق ودور العشائر في هذا المجال وأهمية إعادة هيكلة القوات المسلحة وتأهيلها لتصبح فعلاً سياجاً لكل الوطن وحامية لكل العراقيين، كما أكد الهويّة الوطنية العراقيّة كحاضن جامع لكل العراقيين على اختلاف انتماءاتهم وتباين ثقافاتهم. وفي تصريحاته إلى الصحافة بعد انتهاء الزيارة تمنّى الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي «أن يعود العراق كما كان … العراق لكل العراقيين، العراقي يأمن للعراقي، والعراقي يحمي العراقي». لا حاجة للتأكيد أن رئيس مجلس النواب سليم الجبوري سمع الشيء ذاته من الأمير مقرن بن عبد العزيز ولي ولي العهد. ورغم أن الحديث جاء بلغة عمومية مراعاة لقواعد البروتوكول لكن اللبيب من الإشارة يفهم، والرسالة باختصار أن الخليجيين وليس السعوديين فقط على أتم الاستعداد لفتح صفحة جديدة من العلاقات عندما ترغب حكومة العبادي في ذلك حقاً، ودليل رغبتها في أن تبدأ هي وتبادر بفتح صفحة جديدة وتدير العراق وفق نمط مغاير عن نهج الحكومات السابقة.
بالطبع لا أحد من العراقيين يقبل فرض الشروط والإملاءات عليه، واعتراضنا على نفوذ دولة ولاية الفقيه هو اعتراض مبدئي إذ سنبقى نرفض أي تدخّل في شؤوننا الداخلية مهما ارتقت العلاقة مع الخارج وبلغت حد الأخوة لكن رسائل السعودية ليست شروطاً أو إملاءات بقدر ما هي أمنيات يتطلع إليها بالفعل شعب أتعبته الأحداث بينما استحقاقه الطبيعي هو أن يعيش موحّداً، متنعّماً بثرواته، كريماً تحت الشمس.
العراق كشعب يتمدّد عشائرياً ومجتمعياً ويتكامل مع شعوب دول مجلس التعاون الخليجي والسعودية على وجه الخصوص ولهذا ينبغي أن نتفهّم قلق هذه الدول لحالة انقسام المجتمع العراقي على أساس مذهبي وعرقي وديني، إذ إن عدوى هذه الأمراض سوف تنتقل إلى مجتمعات هذه الدول التي عاشت كحالة المجتمع العراقي متآخية متعافية لقرون من الزمن. ولذلك فإن لدول المجلس حاجة حقيقية وموضوعية في تماسك النسيج المجتمعي العراقي وهذا لا يتمّ إلا من خلال تكريس الهوية الوطنية العراقية كبديل لمحاولات فرض الهوية الطائفية.
الرسالة واضحة ومضمونها أن السعودية تنتظر ما ستفعله حكومة العبادي في الملف الداخلي. وقبل تأهيل العلاقات الخليجية العراقية المطلوب أولاً تأهيل العلاقات الداخلية بين العراقيين أنفسهم، وطالما كانت السياسة الخارجية انعكاساً ومرآة للسياسة الداخلية فإن ترميم العملية السياسية وتأهيلها يجب أن يسبقا ترميم العلاقات الخارجية بين العراق وبين هذه الدولة أو تلك.
دول الخليج العربي تريد للعراق أن يتعافى من أمراضه وأن يستقر. هي لا تريده كياناً ممزّقاً ونهباً لميليشيات يأتي الدعم عبر الحدود بينما تبدو حكومة العبادي عاجزة تماماً عن التصدي لجرائمها الإرهابية أو الحدّ من إزعاجها مرة للكويت وأخرى للبحرين وثالثة للسعودية ورابعة لقطر. العراق قطر عربي وبالتالي لن تغفر الشعوب العربية الخليجية ولا حكوماتها أن يتحوّل العراق العربي إلى حديقة خلفية لإيران توظّفها في التخريب، بينما تتكرّر في وسائل الإعلام مشاهد استفزازية حيث يظهر قاسم سليماني في آمرلي وجرف الصخر آمراً ناهياً وكأنه يقود العمليات على أرض فارس، كما أن الدول الخليجية شعوباً وحكاماً لا ترتاح لأوضاع العرب السنّة وهي أوضاع كارثية، فمحافظاتهم تحت النار، وعوائلهم مهجّرة، ومصالحهم معطّلة، وشبابهم خلف القضبان، ومدارسهم مغلقة، ووجهاؤهم وسياسيّوهم مطاردون، والخيارات المفتوحة أمامهم بفضل سياسة الحكومة التي لم تتغيّر عن سابقاتها هي إما تركهم تحت رحمة الغلوّ التكفيري لـ «تنظيم الدولة» أو ضحيّة للتطهير الصفوي للميليشيات وأجهزة الدولة الأمنية، خياران هما الموت بعينه.
من جانب آخر فأمام حكومة العبادي مهمّة صعبة تتمثّل في التصدي لـ «تنظيم الدولة»، مهمّة تتجاوز إمكاناته الذاتية وما حشد من مليشيات ومعها عدد غير معروف من وحدات من «الحرس الثوري» الإيراني و»فيلق القدس» و»حزب الله» تقاتل براً وجواً ولهذا يحتاج العبادي إلى التحالف الدولي، لكن قبل ذلك هو في أمس الحاجة إلى علاقات عامة رشيدة لجذب كل أطياف المجتمع العراقي وفي المقدمة منهم العرب السنّة قبل أن يُضطرّوا مكرهين لمبايعة «تنظيم الدولة» وينتهي الأمر. إن إحدى الآثار الجانبيّة لهذه السياسة تكمن في تطبيع العلاقات مع أشقّاء العراق الخليجيّين المشاركين في هذا التحالف، وهؤلاء لن يفتحوا الباب على مصراعيه لحكومة العبادي قبل أن يقدّم شهادة نجاحه داخلياً.
لكن الملفت للنظر أن حيدر العبادي خيّب حتى الآن آمال أكثر المتفائلين بتشكيل حكومته إذ إنه كما يبدو ورغم التحذير والتنبيه يمضي دون هوادة على خطى سلفه نوري المالكي وهو ليس فقط لم يفِ بأيٍّ من التزاماته صغيرها وكبيرها بل إن سلوكه وقراراته لا توحي بأنه سيحترم وينفّذ ما تعهّد به خلال الفترة القصيرة المتبقّية من الشهور الثلاثة، وسواء كان ذلك تسويفاً أو عجزاً فإن النتيجة واحدة، وبناء عليه فإن من حقّ ممثّلي العرب السنّة إذا واصل العبادي نهجه هذا أن يتخلّوا عنه ويعملوا على استبداله، وفرصتهم في النجاح كبيرة وهم يملكون كل المبرّرات لاتخاذ هذه الخطوة. عندها ستكون المواجهة السياسيّة معه قائمة لا محالة. كما أن العزلة الخليجيّة المفروضة على العراق ستبقى هي الأخرى قائمة لا محالة أيضاً.
* نائب رئيس العراق السابق
طارق الهاشمي/قبل المصالحة خليجياً … المصالحة وطنياً
14
المقالة السابقة