عروبة الإخباري – كتب منيب رشيد المصري / من خلال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) تعرفت على ياسر عرفات، وكان ذلك في الجزائر عام 1963، حيث كنت مديرا لإحدى شركات النفط، وكانت الثورة الفلسطينية في بدايات تأسيسها، جاؤوا لينهلوا من خبرة الثورة الجزائرية، ويبحثوا عن دعم للقضية وللثورة الفلسطينية الحديثة، تعرفت على القائد ياسر عرفات، وبعد عدة لقاءات آمنت بأنه هو القائد الفلسطيني الذي انتظرنا.
ابتداء من الجزائر، مرورا بالأردن ومن ثم لبنان وتونس، وعودتنا إلى فلسطين، وما بين كل هذه المحطات في تاريخ الشعب الفلسطيني، الجميلة منها والعصيبة، النجاحات والإخفاقات، عايشت أبو عمار الثائر المؤمن بالنصر، الصادق بالقول، الأمين على فلسطين وشعبها، المخلص، العابد، الزاهد، الخادم هكذا بدأت علاقتي بالرمز ياسر عرفات، التي لا تزال وستبقى ما حييت.
كان لا بد من هذه المقدمة لأجيب على أسئلة بعض الأفراد، الذين التقيتهم أثناء مشاركتي في إحياء ذكرى الشهيد عرفات في عدة عواصم ومدن، حول جذور علاقتي بالشهيد ياسر عرفات، وأيضا لكي أؤكد بأن من التقى أبو عمار لا يمكن له أن ينساه، فكيف لي وأنا الذي لازمته لأكثر من أربعين عاما، أن لا أرتبط به حتى بعد مماته، وما شاهدته في فعاليات الذكرى العاشرة على رحيله سواء في مدن الضفة الغربية وبخاصة في مدينة نابلس، وفي القدس، وفي رام الله، وعمان والقاهرة وبيروت لهو خير دليل على أن أبو عمار سيبقى في قلوب وعقول كل الذين عشقوا الحرية، رمزا للعطاء والنضال والتضحية.
وعلى الرغم من أنه وأثناء مشاركتي في كل هذه الفعاليات، وما لفها من حنين وشوق إلى ياسر عرفات بكل ما يمثله، فقد اختلطت علي المشاعر فلم أعد أدرك هل هي مشاعر حزن لرحيل قائد لازلنا بحاجة إليه، أم أنها مشاعر فرح لهذا الوفاء الذي يملئ قلوب وعقول الناس لهذا القائد، أم أنها مشاعر آسى وغضب بأن أرى كل هذه الحفاوة بتاريخ القائد أبو عمار في مدن الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، وعواصم عربية عديدة، لكنها تغيب عن غزة، نتيجة لجريمة ارتكبتها مجموعة حاقدة على تاريخ وارث أبو عمار، ومنظمة التحرير الفلسطينية بما تمثله من كيان وهوية جامعة للكل الفلسطيني، أم أنها كل هذه المشاعر مجتمعة.
في نابلس كان ياسر عرفات حاضرا في حوش العطعوط الذي احتضنه في العام 1967، وكذلك في المسجد الذي سمي باسمه وبني على قمة جبل جرزيم، وشارك في افتتاحه أكثر من (700) شخص من كل فلسطين التاريخية وبعضا ممن استطاع الحضور من الشتات، جاؤوا وفاء وتخليدا وحبا له، وأيضا رفع أكبر علم فلسطيني في شوارع المدينة، وما سبق وتلا كل ذلك من أنشطة مميزة حضًرت لها اللجنة الوطنية لإحياء ذكرى الشهيد ياسر عرفات والاستقلال في محافظة نابلس، ومؤسسة ياسر عرفات التي عملت على إخراج كل هذه الفعاليات داخل الوطن وخارجه بالشكل الذي يليق بهذه المناسبة.
وفي رئتنا التي نتنفس منها، الأردن كان أبو عمار حاضرا، أحيت ذكراه العاصمة عمان، فأتت الأغوار والجبال والسهول، وكانت الكرامة حاضرة حيث اختلط الدم الأردني بالدم الفلسطيني، جاء الأردن بكل مكوناته الشعبية والرسمية بمشاركة مميزة، ليؤكد على وحدة الهدف والمصير والأرض، وليلتقي الشماغ الأردني مع الشماغ الفلسطيني في صورة لطالما كانت وستبقى تعبر عن اللُحمة بين الشعبين، جاؤوا ليقولوا لأبي عمار في ذكرى استشهاده، القدس ستبقى في قلوبنا وعقولنا حتى “يرفع شبل من أشبالها أو زهرة من زهراتها علم فلسطين على أسوار القدس وعلى كنائس القدس ومآذن القدس”، كما كنت تردد يا أبا عمار.
القاهرة، بداية حكاية ياسر عرفات مع الثورة، ومحطة جثمانه الأخيرة قبل فلسطين، ومن قاعة الأزهر في قلب جامعة الأزهر الشريف، وبحضور رسمي وشعبي، قالت له مصر لن ننساك وستبقى في قلوبنا، أوفياء لشعبك ولقضيتك، حاملين حلمك نحو الاستقلال والدولة، ودًعناك إلى فلسطين قبل عشرة سنوات، خلالها جرت مياه كثيرة في النهر، ولكن مصر العروبة والوفاء آثرت، وكعادتها، إلا أن تبقى أكبر من كل المهاترات، حاملة معها القضية الفلسطينية مدافعة عنها كما دافعت دوما عن الأمن القومي العربي، جاءت مصر لتقول لك في ذكراك ماضون “معا وسويا حتى القدس”.
لبنان أسطورة الصمود في الشقيف وبيروت، وطريق الشهيد ياسر عرفات نحو القدس، حاضنة الثورة والكفاح المسلح، قالت لياسر عرفات قاتل وتقدم فأنت بطل الرحلة نحو فلسطين وسنبقى أوفياء لشعبك حتى يعودون، فلبنان هي محطتهم نحو فلسطين ونحو القدس.
انتهت الاحتفالات، والتي نأمل أن تشمل في العام القادم عواصم وبلدان لها ما لها في تاريخ أبو عمار، وتاريخ الثورة الفلسطينية مثل تونس، والجزائر، ودمشق، وبغداد، والخرطوم، والرياض، وطرابلس، والدوحة، والرباط، وأبو ظبي، وعدن، وصنعاء، والكويت، وعُمان، والمنامة، وطهران، وموسكو، وبكين، برلين وجنيف، ونيويورك، ونيودلهي، واستوكهولم، وغيرها الكثير وبما تمثله هذه العواصم والبلدان من أشخاص ورموز عايشوا الشهيد والتقوا معه، نعم انتهت الاحتفالات وبقيت الذكرى حاملة معها الكثير من الألم والأمل والحنين، والإصرار أيضا على استكمال درب الشهيد أبو عمار الذي تجسدت القضية الوطنية الفلسطينية في صورته، انتهت الاحتفالات التي كانت القدس في قلبها كما كانت في قلب وعقل الشهيد ياسر عرفات. القدس ورغم كل محاولات طمس هويتها العربية الفلسطينية لا تزال وستبقى تقاوم الاحتلال، تقاوم سياسات الاسرلة والتهويد، وترفض إلا أن تكون عاصمة للدولة التي ضحى من أجلها الشهداء وقدم في سبيلها الشعب الفلسطيني الغالي والنفيس ولا يزال.
مشاهداتي في هذه الاحتفاليات أكدت لي بأن الشعب الفلسطيني، صاحب الحق، لن يهزم مهما تتالت عليه النكبات، وأن فلسطين وأبو عمار ومنظمة التحرير هي شيء واحد لا يمكن تجزأته. وأعادتني هذه الاحتفالات إلى أكثر من خمسة وستون عاما إلى الوراء، الأعوام التي سبقت وتلت نكبة الشعب الفلسطيني، وما رافقها من نضالات وتضحيات أوصلتنا إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي أعادت الهوية الجمعية، وشكلت الحاضنة السياسية والنضالية لشعب ظن الكثيرون بأن التشريد والقتل والتهجير سينسيه فلسطين.
غصة حملتها معي منذ صباح يوم الجمعة السابع من تشرين الثاني الحالي، حين علمت بأن إحياء ذكرى الشهيد ياسر عرفات لن تكون في قطاع غزة بعد التفجيرات التي استهدفت منصة الاحتفال، وبعض قادة حركة فتح هناك، وما تلا ذلك من تصعيد كلامي وتجريح بحق تاريخ الشهيد وتاريخ حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية بشكل عام. فتاريخ القائد ياسر عرفات الذي صهر التناقضات الداخلية ووظفها لخدمة القضية، لن تؤثر به هذه التفجيرات، لا بل أنها تؤكد بأن هؤلاء المجرمون لا يريدون للشعب الفلسطيني الوحدة وكل ما يرمز إليها ويذكر بضرورتها ويتمسك بها، حتى وإن كان في ذمة الله شهيدا.
زرع فلسطين في وجداننا، وحمًلنا أمانة أن نبقى على الدرب فكان دائما يردد “العهد هو العهد والقسم هو القسم”، وكان مدركا ببصيرته بأن الطريق طويل، لكنه كان دائما يقول “يرونها بعيدة ونراها قريبة وإننا لصادقون”، فزرع الأمل في نفوس الأجيال، وقوًى إيمانهم بحتمية النصر، فأمست “العرفاتية” نهجا تنويريا في هذا الزمن الرديء.
هذا النهج التنويري يبقينا مطمئنين بأن الأخ الرئيس أبو مازن، والقيادة الفلسطينية، والشعب الفلسطيني سيبقى متمسكا بثوابته، محافظا على عهد الشهيد ياسر عرفات، بأن لا يتخلى عنها “شاء من شاء وأبى من أبى”، فقد أعطى ياسر عرفات كل شيء ممكن من أجل “سلام الشجعان”، ولن يكون هناك شخص يستطيع أن يعطي أكثر مما أعطاه شهيدنا الخالد، الذي قضى وهو متمسكا بالثوابت، موصينا بالحفاظ على وحدتنا الوطنية، فلنبقى أمينين عليها ولنعمل من أجل تحقيقها، كخطوة أساسية لدحر الاحتلال وانجاز الاستقلال وبناء دولتنا على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، كاملة السيادة، بعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين وفق القرار 194.