كيف تحولت عشرات الأفكار التي طرحتها شخصيات في تاريخنا الحديث؛ أمثال حسن البنا وميشيل عفلق وجمال عبدالناصر وأسامة بن لادن واليوم أبو بكر البغدادي، إلى تيارات عقائدية أو أيديولوجية عابرة للحدود، تنتشر كالنار في الهشيم؛ تتغلغل في أحشاء المجتمع، ومنه إلى خارج المنطقة؟
لأن تلك الشخصيات التاريخية نجحت في استغلال ظروف موضوعية، داخلية وخارجية، في مفاصل زمنية وفّرت سياقات سياسية واقتصادية ومجتمعية مركبة، تفاعلت معا لإفراز فكرة “كبرى” لعبت على القومية أو الدين، واستقطبت شارعا تائها ومقهورا لأسباب متعددة: بطش الاستعمار والمتحالفين معه، ثم نكبة العام 1948. وانتشرت هذه الأفكار أيضا لأن الشعب يبحث عن بطل أنموذج؛ يرد الكرامة له ولأمته، أو يوفر حياة أفضل للمهمشين والمحرومين بعد أن سئم شعارات رنّانة دغدغت عواطفه المجروحة.
بعيدا عن المقارنة بين مقاصد رسالة كل منها، ومآلاتها، وجوانبها المشرقة والظلامية؛ نجحت تلك الشخصيات في قراءة الوسط الذي عاشت فيه، وامتلكت مفاتيح حشد الجماهير المستسلمة، قبل أن تتحول أفكارها الى مد جارف طال الدول العربية، وخلق إشكاليات وتحديات لأنظمة طالما جاهدت لتحصين مجتمعاتها وخطّها السياسي من هذا العنوان العابر للحدود.
على مر العقود، لم ينضب النبع بينما تتغير الظروف الموضوعية بالشكل وليس بالمضمون.
بعد بسط الاستعمار البريطاني والفرنسي في المنطقة، نشطت الحركات القومية والبعثية منذ أربعينيات القرن الماضي، وتبعها المد الناصري، وصولا إلى نكسة 1967. تيارات جارفة أعلنت إيمانها بالتعددية الحزبية؛ أساس الديمقراطيات الناشئة، قبل أن تنقلب عليها نتيجة صراعات داخلية، وانقلابات عسكرية. بعد النكسة، صعدت الهوية الوطنية الفلسطينية النضالية، فيما ضُربت صدقية خطاب الحركات القومية واليسارية أمام صعود الإسلام السياسي الذي تحالف مع غالبية الأنظمة وفق تقاسم وظيفي: يمنح الإخوان المسلمين مساحة للعمل في ملعب الخدمات الاجتماعية، والصحة، والتربية والتعليم، والأوقاف؛ بينما تلعب الأنظمة في السياسة والأمن والمال. في أماكن أخرى -من أفغانستان إلى السودان- شرع أسامة بن لادن في تأسيس “القاعدة”؛ نسخة متطرفة من الإسلام السياسي، تحولت اليوم إلى “داعش”؛ “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام”.
وفي غمرة الاصطفافات والتحالفات غير المقدسة على قاعدة تبادل المنافع و”عدو عدوي صديقي”، تقاطعت الإسلاموية بتلاوينها المعتدلة والمتشددة مع العروبة في نقطة تصادم، بدلا من التقدم بخطين متوازيين؛ الأمر الذي عطّل عجلة التنمية وجمّد مشاريع التنوير والديمقراطية.
وظلت الشعوب الخاسر الأكبر، فيما اجتاح العسكر مقاليد الحكم على صهوات الدبابات.
حصل ما حصل. جاءت اتفاقية أوسلو في العام 1993 نقطة تحول فارقة للمشروع الوطني الفلسطيني، بعد انحسار القومية وترنح اليسار أمام تسييس الدين وصعود الحركات الإسلامية، مستغلة فشل الأنظمة في مأسسة دول حديثة، وتلبية رغبات الشعوب برغد العيش. وقود هذا المد نبع من انتشار الجهل والتخلف والفقر والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية والمساواة في دولة المواطنة.
اليوم، يتمدد ما يطلق على نفسه تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) ليلعب على وتر اضطهاد سُنّة العراق، ويرفع شعار حماية السنة من التغلغل الشيعي والفارسي بعد سقوط العراق، الذي تحول إلى ساحة نفوذ لإيران المتحكمة بملفات المنطقة الساخنة في سورية ولبنان وفلسطين والعراق، وصولا إلى اليمن والبحرين. وتتحرك إيران الآن لنسج تحالف جديد مع الغرب من بوابة بغداد.
بين ليلة وضحاها، ورغم عقائديته المتشددة، يلمع اسم أبو بكر البغدادي كشخصية قيادية ديناميكية؛ حال البنا وعفلق وعبدالناصر وبن لادن، رغم الاختلاف في تعاليمهم. وتتجه “الداعشية” بفعل نشاطها الإعلامي المتمحور حول إقامة دولة الخلافة إلى مذهب سياسي متميز لمن يرفعه، مقابل فكرة مرعبة لمن لا يؤمن بها. مجتمعات تعلن البيعة للبغدادي وتوكله كولي لأمرها، وتقبل بما يروج له وينفذه، لأنه قد يوفر أنموذجا لنظام يوفر الأمن والعدالة والأمان والمساواة تحت عباءة شرعية نسخة للدين خاصة به.
“داعش” صناعة عراقية 100 %، ويتمدد. إذ نشأ التنظيم في هذا البلد الجريح، مستغلا انهيار سلطته المركزية بعد الانسحاب الأميركي، ليتحول (داعش) إلى صوت للسُنّة المقهورين والمهمشين. فاستقطب ضباط مخابرات وجيش نظام صدام حسين وحرسه الجمهوري، وكل من أقصي من العملية السياسية لمصلحة دخول إيران على خط حكم العراق. والأحداث في سورية وفرّت له فرصة لمد نفوذه ليصبح اسمه “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش).
بعد أن سيطر التنظيم على مساحات واسعة شرق العراق، أعلن البغدادي تنصيب نفسه خليفة للمسلمين، ليعقد العزم على إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة بحذافيرها. ويقتل التنظيم كل من يخالف تعاليمه أو يرفض تقديم البيعة له. ويمارس الانتهازية السياسية حال من سبقه من اللاعبين في حقل السياسية. ولا مانع لديه من الانقلاب على جماعات متشددة تشاطره منهجه العقائدي لتعزيز نفوذه، كما فعل مع “جبهة النصرة” في سورية.
“داعش” تحولت اليوم إلى عقيدة عابرة للحدود، مدعومة بحواضن اجتماعية. ومن بين اتباعه العديد من شباب لا يوافق على سياسات ذبح ونحر المعارضين، لكنه ينجذب إلى التنظيم لتغيير الوضع القائم، ونكاية بمن يجلس على مقاعد السلطة، باعتبار “داعش” عنوانا للاعتراض على السياسات الحكومية والرسمية.
قد ينجح التحالف الدولي في ضرب نفوذ “داعش” العسكري. لكن أفكار وقيم التنظيم ستواصل الانتشار، لأنها تتحول مع الوقت إلى صوت للمقهورين والمظلومين في مجتمعاتهم.
“داعش” سيتمدد كلما أصرت السلطات الحاكمة والنخب الاقتصادية والسياسية المتحالفة معها لحماية مكاسبها، على الوقوف ضد دولة المواطنة والتعددية ومدنية المجتمعات، وأغمضت عيونها عن الفساد والإفساد.
الجوع كافر.. الفقر كافر.. والله هو المعين الوحيد لمن يفقد الأمل.
رنا الصباغ/تيارات جارفة عابرة للحدود
22
المقالة السابقة