بعد إيران، جاءت زيارة حيدر ألعبادي، رئيس الوزراء العراقي، إلى الأردن لتكون أول زيارة له لبلد عربي.والإشارة مضمونها دبلوماسيا أن الإدارة الجديدة في العراق لن تتخلى عن علاقاتها العربية، ولن تكون أسيرة جارين اثنين فقط هما إيران وتركيا.
ورغم التاريخ الطويل للعلاقات الأردنية العراقية، والاقتراب والابتعاد والصعود والهبوط فيها، إلا أنها بقيت على الجانب الرسمي في الإطار السياسي غير المستقر، والتجاري المتأرجح ،على الرغم من العلاقات الطيبة الدائمة على المستوى المجتمعي، و على الرغم من فتح الأبواب الأردنية للأخوة العراقيين كزائرين ومقيمين ومستثمرين وسياسيين وناشطين. و في الجانب العملي ، فقد كانت الأردن، ومنذ أوائل الثمانينات، الرئة التي تنفست منها العراق على مدى 35 سنة. فكانت البضائع العراقية تأتي إلى العقبة ليصار إلى شحنها برا إلى العراق وحتى هذه اللحظة. ولم تتطور هذه العلاقات لينشأ عنها مشاريع إستراتيجية كبيرة مشتركة، أو متكاملة، رغم احتياج البلدين لمثل هذه المشاريع، ورغم استعداد الأردن الدائم والمخلص في هذا الاتجاه. وهذه ظاهرة تسود المنطقة العربية بأسرها. إذ يندر أن تجد شراكة إستراتيجية في مشاريع كبرى بين أي قطرين عربيين متجاورين، ابتداء من المغرب العربي مرورا بالشرق الأدنى، وانتهاء بالعراق والخليج العربي. ما ينشأ من علاقات هو دائما مزيج من المشاريع الإعلامية والسياسية والتبادلات التجارية والتعاون الإداري المتواضع.هذا على الرغم من أن الحديث عن المشاريع العربية الكبرى يمتد لأكثر من 50 سنة .
فقبل 33 سنة، انطلقت مفاوضات جادة بين العراق والأردن لإنشاء خط لنقل نفط من العراق إلى العقبة لتصدير النفط العراقي إلى أوروبا. وفي اللحظات الأخيرة تراجع العراق عن المشروع، اعتدادا بإمكاناته آنذاك، واختار مسارا آخر لأنبوب النفط عبر السعودية وآخر عبر تركيا. كذلك مشاريع أنابيب الغاز والمياه والسكة الحديد وصناعات الأسمدة والكيماويات وغيرها. ويبدو أن هناك في العقل السياسي العربي استهانة من الدولة الأكبر في إمكاناتها بالدولة الأصغر،ولديه ضيق بالدولة المساوية، و تشكك في الدولة الأكبر من الدولة الأصغر.و هناك خوف دفين لدى الأنظمة من المشاريع الكبرى التي يمكن أن تربط الشعوب العربية بعضها ببعض ،و بالتالي تعمل على الإبتعاد عن مفردات التكامل الاقتصادي والتكتل الاقتصادي وغير ذلك ،رغم الحديث عنها صباح مساء.
صحيح أن ألعبادي زار الأردن وفي الجعبة أولوية واحدة هي: “محاربة الارهاب”. ولكن الفهم المجزوء للإرهاب لا يساعد على محاربته بكفاءة و فعالية.ذلك أن العامل الأكبر في نجاح الارهاب في المنطقة العربية، و تسربه بيسر إلى عقول الشباب يتمثل في وجود بيئة حاضنة للإرهاب في أماكن شتى. وهذه البيئة تتشكل تدريجيا نتيجة لحالة الإحباط السياسي والاجتماعي والفكري والاقتصادي .فغياب الديموقراطية و حقوق المواطنة ،والتقسيم الطائفي والمذهبي والقومي و الإقصاء المتعمد للآخر، وهي الظاهرة الأبرز في العراق وسوريا، تدفع المحبطين والمهمشين إلى قبول الفكر المتطرف والأعمال الإرهابية انتقاما من العدو المشترك وليس حبا في التطرف حتى لو أدى ذلك إلى انهيار الدولة. كما أن الإخفاقات الاقتصادية، والفساد وتهريب الأموال، وسوء الإدارة و ما يتأتى عنه من فقر وبطالة تضع الشباب أمام خيارات صعبة. فالجماعات الإرهابية تقدم الإغراءات المالية والسلطوية والعقائدية باسم الدين، في حين تعجز إدارة الدولة عن توفير فرص العمل والحياة الكريمة والمواطنة والمساواة بين المواطنين. وهذا ما تعاني منه العراق وسوريا وغيرهما من الأقطار العربية. أما الفصل الثالث في تكوين البيئة الحاضنة للإرهاب، فهو الإعلام التضليلي والفكر الماضوي المتخلف عن العصر بالمفاهيم و الأساليب الذي يربط العقول و الآمال بالأوهام ، ولا ينتج للحاضر شيئا، بما في ذلك العدالة الاجتماعية والأمن والأمان وغير ذلك مما يفتقده الإنسان العربي المعاصر.
والسؤال هل الإدارة الجديدة في العراق مدركة لمتطلبات التغيير بما فيها مفردات المحاور الثلاثة في تكوين الحاضنات للإرهاب والتطرف؟ هل يمكن للإدارة العراقية وغيرها من الإدارات العربية آن تدرك أن العمل الاقتصادي المحلي والثنائي المجاور و الإصلاح السياسي الداخلي والثقافي التربوي الوطني جزء لا يتجزأ من محاربة الارهاب ووضع حد له ؟ هل الإدارة العراقية مستعدة لإنهاء حالة الإقصاء الطائفي التي تكاد تفتت العراق؟ وهل لديها التوجه للاستثمار الاقتصادي في المشاريع الجادة المشتركة مع الأردن حتى يتمكن البلدان من العمل المبرمج، وزيادة قوة التعاون وإعطائه ديمومة اكبر؟ هل سنشهد تنفيذ المشاريع الكبيرة التي تناولتها اللجان المشتركة منذ سنين؟
لقد آن الأوان للأقطار العربية أن تقرأ الحاضر والمستقبل قراءة صحيحة، وأن تدرك بعمق شديد، وباقتراب عملي راسخ، أن التعاون في مشاريع كبرى متنوعة أصبح من ضرورات البقاء، و ليس ترفا أو معونة من قطر لآخر. و أن قوة القطر العربي، بمعنى الدولة وليس النظام، القطر المجاور وتصاعد إمكاناته هي قوة يستفيد منها جيرانه العرب ويحتاجون إليها عاجلا أو آجلا، و أن التعاون المتعجل المؤقت لا يفيد الشعوب ولا الأنظمة على حد سواء، و أن التطرف و الإرهاب و حش أعمى يتطلب القضاء عليه الكثير من البرامج الرصينة الذكية و في مقدمتها تدعيم بناء الدولة الوطنية واكتساب ثقة المواطن الذي يضع حياته رهن المستقبل.