تعيش تونس هذه الأيام لحظة تاريخية منعشة انتظرها الشعب مدة ستين عاماً وعبر عنها ذلك المواطن العادي الذي صورته قناة الجزيرة وهو يمسح بيده على شعر رأسه المكسو شيباً ويقول: هرمنا هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية وهي كذلك بحق حتى لو أصبح المواطن التونسي يضحك من مسرحيات كوميدية تطل عليه من الفضائيات من جراء البرامج المكررة والتحليلات السخيفة والأشخاص الطامحين للحكم بلا أي زاد أو خبرة وكذلك فهو عرس ديمقراطي حتى لو عادت للفضاء السياسي وجوه قليلة من عهد الاستبداد لتستغل غفلة الناس ويأسهم من فشل النخب التي حكمت بعد الثورة فتحاول هذه الوجوه الكريهة التسلل إلى مواقع الدولة والحلم بإعادة إنتاج الكارثة. وللحقيقة دافعت أنا نفسي حين كنت قياديا في أحد الأحزاب عن مبدأ عدم الإقصاء السياسي بقوانين استثنائية لأي طرف كان مثلما فعلت أغلب الثورات وأصدر حزبي آنذاك بيانا يذكر بالآية الكريمة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) و(كل نفس بما كسبت رهينة) وأسعدني اليوم أن يترشح للرئاسة بعض من كانوا وزراء في حكومات ابن علي لأني عرفتهم حين كنت معارضا شرسا للاستبداد وأيقنت أنهم لم ينخرطوا في منظومة الفساد بل اجتهدوا في خدمة وطنهم مثل كمال مرجان والمنذر الزنايدي لكنني لم أكن أتوقع عودة وزير سابق للعدل وأمين عام سابق لحزب التجمع للواجهة فطلع علينا بعد تهم وسجون يبدو أن القضاء برأ ساحته منها لكن المسؤولية السياسية والأخلاقية لا يستطيع التملص منها أو نيل البراءة فيها فهو كوزير للعدل (في الحقيقة للظلم في العهد المظلم حاشا القضاة النزهاء وهم كثر) كان المسؤول الأول والمباشر عن كل القضايا الكيدية التي طالت المناضلين ومات فيها 38 شهيدا تحت تعذيب البوليس السياسي وفي كهوف أمن الدولة ورمت في السجون 10 آلاف من الشباب وشردت 20 ألفا منهم في أرض الله وهو اليوم يترشح للرئاسة (نعم للرئاسة) باسم حزب حله حكم قضائي ومنع قيامه إلى يوم القيامة لأنه تشويه لحزب الاستقلال وبناء الدولة ورئيس هذا الحزب الذي جاء مسخا ومجرد ستار تبريري لمافيا النهب والسلب هو رئيس حكومة ابن علي على مدى 11 سنة سخرت فيها عصابة الأصهار كل دواليب الإدارة وكل مؤسسات الدولة لخدمة التحايل والتهريب وجمع الثروات الحرام بينما رئيس الحكومة هو حسب الدستور المسؤول الأول عن الإدارة التونسية والضامن لحسن سيرها وشفافية أدائها ونزاهة رجالها! ووزير العدل آنف الذكر هو الذي قدم طلب جلبي من منفاي الفرنسي عبر جهاز إنتربول وأشرف على العملية بنفسه حسبما روى لي المرحوم عبد الحميد عطية الذي كلفته وزارة العدل بترجمة ملف الإنتربول إلى الفرنسية واقتادتني الشرطة العدلية الفرنسية صباح يوم 24 أغسطس 1992 إلى محكمة (فرساي) منذ الساعة السابعة صباحا وودعت زوجتي وابني (الطيب) ودعوت الله سبحانه أن يحميني من تلك العصابة التي اسمها (دولة) وتوافد رفاق المنفى منذ الصباح على المحكمة وجاء محامون فرنسيون متطوعون وأرسلت السيدة ميتران حرم رئيس الجمهورية موفدا عن مؤسستها الإنسانية لمتابعة أمري كما أرسل الأستاذ (روبير فردييه) رئيس رابطة حقوق الإنسان الفرنسية محاميا للدفاع عني وتدخل بعد الظهر صديقي الوزير الفرنسي الأسبق (برنار ستازي) لفائدتي إيمانا منه بأن قضيتي كيدية وتدخل وزير العدل (ميشال فوزال) بنفسه باسم الحكومة ليأذن وكيل الجمهورية بمحكمة فرساي بإطلاق سبيلي وما كان أعظمها لحظة وأكبره انتصارا على الطاغوت حين خرجت من قصر العدالة حرا عصر نفس اليوم ولفح وجهي نسيم عليل ومعي رئيس الحكومة التونسية الأسبق محمد مزالي ووزير الدفاع الأسبق أحمد بنور ومجموعة من شباب مقاومة الطغيان ونال النظام صفعة مدوية وأعتقد أن ابن علي نادى وزير العدل المشار إليه ليعزره تعزيرا غليظا على فشله الذريع في جلب معارض بريء مكلبشا من فرنسا إلى مصيره المحتوم في تونس.
تونس هذه البلاد الآمنة التي أبدعت اليوم في الانتقال الديمقراطي بأقل التكاليف فكانت استثناء عبقريا عجيبا عن بلدان عربية أخرى تاهت في متاهات الطائفية والطبقية والحزبية والميليشيات وتحول ربيعها إلى جهنم من الفتنة والتقاتل وانعدام الأمن. ورغم الكوميديا التي أضحكتنا والتي مردها سنة أولى ديمقراطية بما فيها من فلكلور كنا في المنافي نحسد عليه فرنسا وبريطانيا وناضلنا جميعا لبلوغ هذه الدرجة من الحرية وحتى الانفلات في الحرية فإن تراجيديا الاستبداد بدعوى الجدية ووهم هيبة الدولة كانت تبكينا وتقتلنا وتدمر الإنسان فينا وكنا ندخل القنصليات التونسية أذلاء لنستجدي حقنا في جواز سفر ولا نحصل عليه وكنا نصل مطار تونس قرطاج قادمين من مدن المنافي ونحن خائفون من تعليمات لإيقافنا أو من مؤامرات لتوريطنا وحققت الثورة للمواطن عزة نفسه وضمنت له عدم الخوف والمذلة لغير الله والشعور الجديد والمنعش بأنه سيد في وطنه ولا سلطان عليه سوى القانون حتى أن الثورة ضد القهر كانت شعاراتها (شغل حرية كرامة وطنية) ورغم أننا نضحك هذه الأيام من مترشحة للرئاسة ادعت أنها نالت جائرة نوبل ورغم أننا نهزأ بمرشحين للتشريعية لا برامج لديهم ويتلعثمون أمام كاميرات التلفزيون ورغم أننا نشاهد يوميا حوارات هابطة بين مرشحين وخصومهم تذكرنا بحوارات (آل كابون) مع (آل باتشينو) حول غنائم المافيا ومصادر الأموال وحقائق الصفقات ورغم أننا نلمس يوميا “قلبان الجاكيتة (الفيستة بالتونسي)” وتحول هذا التجمعي (نسبة إلى حزب تجمع بن علي) إلى ثوري شرس يدافع عما سماه (مكاسب ثورتنا!) أو تبرير ذلك السياسي القديم صمته المريب العجيب عن المظالم على مدى ستين عاما منذ اغتيال صالح بن يوسف إلى محنة أحمد بن صالح إلى المؤامرات ضد محمد مزالي إلى تعذيب الآلاف بقوله إنه لم يكن يعلم، والساكت عن الحق كفاعل الباطل بل هو الذي مكن الظالم من مواصلة الظلم ويعلم الله كم عشنا في محنة المنافي الطويلة من مهازل التنكر للحق وإطلاق غرائز النفاق وأذكر بعضا من هذه المهازل اليوم كالذي وقع لي شخصيا مع صديق حميم طبيب كنا سنة 1980 أسسنا أنا وهو والأستاذ حامد الزغل وأستاذ الطب سليم عمار والأستاذ محمد الشرفي رابطة المغرب العربي لخدمة مبادئ اتحاد مغاربي وكان هو طبيب عائلتي وسعيت لدى رئيس الحكومة محمد مزالي ليعينه وزيرا نظرا لأنه رجل ديمقراطي(سامح الله سذاجتي!) لكن نفس هذا الطبيب الديمقراطي عينه ابن علي وزيرا للشباب والرياضة فأرسلت من منفاي زوجتي لمقابلة الصديق الحميم وطبيب أسرتي ورافع شعار الديمقراطية (بنفس السذاجة!) فإذا بها في مكتب سكرتيرته طالبة مقابلته تسمعه بوضوح في الهاتف يقول للسكرتيرة حرفيا (اصرفي مدام قديدي قولي لها في اجتماع.. أو تذرعي بأي سبب تصرفي) وهو يعلم أنني كنت في محنة المنافي أنا وأولادي في أمس الحاجة لكلمة خير أو تدخل لدى الطاغوت.. مع العلم نسيت أن أقول إن هذا الطبيب المتنكر لمبادئه وللصداقة هو من بين المرشحين.. للرئاسة! في فصل من فصول كوميديا الديمقراطية التي ستظل أفضل ألف مرة من جدية الاستبداد
د.أحمد القديدي/كوميديا الديمقراطية أفضل من تراجيديا الاستبداد
15
المقالة السابقة