بين يدي المناسبة الباعثة على قسط من الأمل وقدر من التفاؤل، ونعني بها قرار مجلس العموم البريطاني الاعتراف بدولة فلسطين العتيدة، استعدت من عمق أعماق الذاكرة، أي من مرحلة الطفولة المبكرة، أو قل من زمن البراءة والدهشة والندرة، أول تجربة لي مع قطعة حلوى لدنة الملمس، سهلة القضم والمضغ والبلع، رحت بعد أن ازدرتها بنهم أسأل أمي عن اسم هذا الشيء الطري الهني، ومذاقه الماتع لم يبرح الفم بعد. فقالت لي، رحمها الله: هذه راحة الحلقوم يا بنيّ.
هكذا وقع نبأ اعتراف مجلس العموم البريطاني على مسامعي وقوع حبّة الحلقوم الأولى على لساني. كما أشاع هذا القرار، الذي بدا وكأنه تعبير عن يقظة ضمير طال سباته لنحو قرن من الزمان، حالة ارتياح مفعمة بمشاعر الجدارة بالذات الوطنية، والثقة بجدوى الخطاب السياسي الواقعي القابل للترجمة والفهم، حتى وإن قيل إن هذا القرار غير ملزم لحكومة الامبراطورية التي كانت الشمس لا تغيب عن مملكتها، وتم تذكيرنا مراراً بأنه مجرد قرار رمزي لا مفاعيل فورية له الآن.
وأحسب أن أفضل توصيف لمشهدية النزاع المديد مع إسرائيل، ما قاله أحدهم ذات يوم مضى، بأن الأمر أشبه ما يكون بحلبة ملاكمة لا يوجد فيها حكم نزيه، يتقابل عليها ملاكمان اثنان، أحدهما مفتول العضلات وذو خبرة واسعة في النزال، وثانيهما فتى ضعيف البنية، إلا أنه مليء بروح التحدي وغير هيّاب من تلقي الضربات، الأمر الذي أدرك معه هذا الملاكم الأخير المدجج بالصبر والتصميم واللياقة، أنه لا سبيل إلى إسقاط خصمه بالضربة الفنية القاضية، وبالتالي فإن عليه أن يكسب النزال بسلسلة لا حصر لها من الضربات الصغيرة.
على هذه الخلفية، فإنه يمكن اعتبار قرار مجلس العموم البريطاني المعبر بتصويته الكاسح، ومن كل الأحزاب، تحولا عميقا في الرأي العام البريطاني، وأنه بمثابة ضربة فنية صغيرة أخرى، أتت في إطار سلسلة طويلة من الضربات الموجعة للملاكم الإسرائيلي الذي بات في هذه المرحلة من النزاع أكثر انكشافاً من ذي قبل، وأقل مهارة في اتقاء اللكمات التي أخذت تنال منه بصورة متزايدة، وتصيبه بقدر أكثر فأكثر من الإعياء، رغم كل ما يبديه من مكابرات ويتكتم عليه من أوجاع.
ومن غير تهويل أو تهوين من أهمية هذا القرار البريطاني، الآتي من غرفة التشريع الأولى في البلد الذي تلاحقه آثام وعد بلفور، فإن لنا أن نقرأ بإمعان وأن نستمع بإصغاء، وقع هذا القرار الذي صدر بأغلبية فاقت أفضل التوقعات، ليس فقط على الجانب الفلسطيني المبتهج حقاً بهذا الإنجاز، وإنما من إسرائيل المصابة بداء الغرور وآفة الاستعلاء، كي نلمس مدى الشعور بجسامة الخسارة الثقيلة، وعمق الإحساس بخطورة تصاعد الأبخرة من فوهة البركان، المنذرة بوقوع زلزال سياسي لا رادّ له في المدى المنظور.
ولعل من المفيد التذكير هنا أنه قبل أكثر من عام، وفيما كانت الدول الغربية تتهيأ لمعاقبة نظام بشار الأسد جراء استخدام السلاح الكيماوي المحرم دولياً، كان مجلس العموم البريطاني أول من كبح دوران عجلة الضربة الوشيكة، وأرخى بظله على قرار الكونغرس الأميركي في مبنى “الكابيتول”، الذي حذا بدوره حذو المشرعين في “وست منيستر”. الأمر الذي يشير إلى أن الموجة الخفيفة الناجمة عن القرار الصادر في لندن قبل أيام، قد تحدث موجة أشد اتساعاً في البركة الأميركية الراكدة، ولو بعد حين قد لا يطول كثيراً.
على أي حال، فإن ما جرى في أعرق البرلمانات وأقدمها في العالم، وما واكبه من حراك سياسي داخل أروقة المجلس وبين سائر الأحزاب التي تتداول السلطة بسلاسة في “10 داوننغ ستريت”، أشبه ما يكون بإحداث خرق في جدار السد، الذي لن يصمد طويلاً أمام قوة انحباس الماء المتجمع وراءه منذ عشرات السنين. وعليه، فان ما يبدو اليوم قراراً رمزياً بالغ الدلالات، قد يفضي غداً إلى تحول سياسي تشمل تداعياته عموم دول القارة العجوز التي يبدو أنها شفيت من عقدة الذنب، وبدأت ترى بأم العين أن ابنها المدلل قد أصبح ولداً عاقاً، تنبغي إعادة تربيته من جديد.