تجتاح المنطقة حالة من الإضطراب والإحتراب و عدم الإستقرار لم يعرف لها مثيل منذ رحيل الإستعمار قبل عشرات السنين. ولا تبدو في الأفق أية مؤشرات على عودة الهدوء لتستأنف دول المنطقة نهضتها التي تأخرت كثيرا. و مع هذا فإن الدول التي تتمتع بدرجة مقبولة من القوة و التماسك ومن قدرة المؤسسات على العمل و الإنجاز لا ينبغي لها الانتظار حتى تهدأ المنطقة بكاملها أو بشكل كلي. بل عليها أن تسارع إلى العمل بكل طاقاتها و على أسس علمية حديثة، حتى تندمج شرائح المجتمع في الأعمال المنتجة، فتزيد من قدرة الدولة على المواجهة، و تحرم الإرهاب من البيئة الحاضنة التي يبحث عنها.
و لا شك أن مصر تلعب دورا بارزا في هذا الإتجاه. و تدل الكثير من المؤشرات على أن الإدارة المصرية الجديدة ،تتحرك بحذر شديد وسط حقل الألغام الذي ورثته عن الإدارات السابقة، مدركة بعمق لتعقيد الإشكاليات الاقتصادية الاجتماعية السياسية التي تواجهها مصر و المنطقة. كما يبدو أن هناك تصميم قوي على الخروج من عنق الزجاجة، ووقف التراجع المخيف الذي أصاب البلاد خلال السنوات الماضية. ولعل مظاهر هذه الحالة يمكن قراءتها في الاتجاهات الجديدة التي تتبناها الإدارة في مصر، وتتمثل بما يلي :
أولاً: «إعادة الهيبة للدولة وتطبيق القانون بقوة»، وملاحقة عناصر الإجرام و الإرهاب و التطرف بكل حزم، رغم ما يكلف ذلك من جهد وتضحيات ووقت ومال. ثانياً : تجميع أبناء الوطن على اختلاف تكويناتهم واتجاهاتهم، حول «مشروع وطني كبير»، يثير فيهم الحمية الوطنية والرغبة في صنع شيء، وهو مشروع قناة السويس الثانية أو المكملة. والتي يشعر المصريون ومنذ تأميم القناة في عهد جمال عبد الناصر أنهم المالكون لهذا المشروع الوطني الكبير . وقد كلفت الحكومة الجيش المصري بإدارة المشروع والانتهاء منه خلال سنة واحدة، بدلاً من (3) سنوات. الأمر الذي خلق حالة من التحدي الايجابي لدى المواطنين ولدى شركات القطاع الخاص . ثالثاً : سوف يتبع مشروع القناة الجديدة والتي سوف تدر (8) مليارات دولار إضافية سنوياً «مشروع إقليم القناة»، والذي يعني تحويل منطقة القناة إلى منطقة صناعية متطورة تقدم الخدمات الصناعية والتكنولوجية المتقدمة، وتنتج السلع ،وتتفاعل مع أطراف العالم المختلفة. رابعاً : المباشرة «بمشاريع استصلاح الأراضي على نطاق واسع» وذلك لسد فجوة الغذاء الهائلة. حيث وصلت مستوردات مصر من المواد الغذائية (20) مليار دولار سنوياً . حتى الفول الذي يمثل غذاء المواطن الفقير أصبح يعتمد على الاستيراد نتيجة لإهمال الزراعة وتهميش الاستثمار فيها، وإخضاعها لتجارة المال والعقار و للمصالح التجارية للمستوردين. خامساً : اعتماد «صنع القرار و لدى رئاسة الدولة على رأي ودراسات العلماء والخبراء» الحقيقيين، وليس محترفي السياسة والاستشاريين الأجانب .
وهذا توجه جديد في المنطقة العربية ،تأخر لعشرات السنين. فراح السيسي يجتمع شخصياً ،برفقة طاقم من مكتبه، مع العلماء البارزين من أمثال أحمد زويل وفاروق ألباز و غيرهم، ويستمع اليهم ويناقشهم ويعطيهم الوقت والثقة، ويطلب من الإدارات التنفيذ بعد استكمال التفاصيل. سادساً : الاعتماد على «المجالس العلمية التخصصية» التي تقدم دراساتها و أعمالها إلى رئاسة الدولة لحل المشكلات ومواجهة الاحتياجات والاستعداد للمستقبل .فتم تشكيل «المجلس الاستشاري من العلماء والخبراء» ليضم أفضل الشخصيات المصرية العلمية والتكنولوجية في البلاد و خارجها، وكذلك تشكيل «مجلس التعليم والبحث العلمي التخصصي» من أجل النهوض بالتعليم على مستوياته، وبالبحث العلمي وخاصة التطبيقي الذي يساعد على حل المشكلات القائمة. وكذلك «المجلس التخصصي لتنمية المجتمع»، ليدخل مدخلاً علمياً إلى تفاصيل المشكلات الاجتماعية، ويقدم لرأس الدولة الحلول والبرامج. وكذلك مجلس الطاقة والثروة المعدنية،والمجلس الإقتصادي، وغير ذلك من المجالس التي يجري العمل على تشكيلها، لكي تغطي مختلف القطاعات. وهذا توجه جديد يضع رأس الدولة على اتصال مباشر بالمشكلات من جانبها العلمي والحلول الممكنة للخروج من الأزمات. سادساً : الاعتماد على» التمويل الوطني الذاتي» لتنفيذ المشاريع، وليس انتظار المعونات والقروض. فقد وصلت مصر إلى مستوى من المديونية يعادل 85%من الناتج المحلي الإجمالي أو (220) مليار دولار ، و من الخطورة بمكان أن تتجاوزه . واستطاع المواطنون العاديون الاكتتاب بما يقرب من (10) مليارات دولار خلال ثمانية أيام لتغطية نفقات قناة السويس الجديدة. وسيتبع ذلك تمويلات مشابهة للمشاريع الأخرى. وهذا النمط من التمويل أي التمويل الشعبي من خلال «شهادات الاستثمار» هو المدخل الأفضل و الأسرع، و الأسهل في نفس الوقت لتمويل المشاريع الضخمة،و لتنمية المحافظات والنهوض بالقرى والأرياف . ومثل هذا النمط يمكن تطويره من خلال «شركات قابضة وتعاونيات متخصصة» وغير ذلك الكثير. سابعاً : المباشرة «بإدماج الشباب وانخراطهم في العمل العام» واجتذاب المتميزين المتفوقين منهم إلى رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء والوزارات و المؤسسات المختلفة، حتى يكون هناك فرصة لاكتساب الخبرة وتداخل الأجيال وبعث روح العمل لدى الجزء الفتي من المجتمع.
وبعد فإن الإقترابات الجديدة في إدارة المسألة الاقتصادية الاجتماعية في مصر تكشف (4) نقاط يمكن الإفادة منها على مستوى المنطقة العربية و نحن منها. الأولى : هي الاعتراف بالمشكلة من خلال المؤشرات و الأرقام، والإدراك الصادم لحجمها وتعقيداتها والثانية : الإيمان بأن الفكر و العلم والتكنولوجيا والخبرة والإرادة هي مفتاح التغيير والمدخل لاستعادة الدور السياسي والحضاري للدولة . والثالثة :أن رأس المال البشري الوطني المبدع المتمثل بالعلماء والخبراء والمفكرين والمهندسين هو الدعامة الأساسية للنهوض و تجاوز الأزمات و الرابعة: الاطمئنان إلى قدرة المجتمع على التجاوب مع كل متطلبات النهوض بالجهد والمال والصبر والمثابرة، إذا توفرت الثقة بين المواطن والدولة. وبذلك يمكن مواجهة العواصف العاتية في المنطقة،و الخروج من الحاضر الصعب إلى المستقبل الرحيب.