عودة الرئيس بشار الأسد عن الترحيب باستعمال أميركا قوتها العسكرية الجوية وخبرتها لمحاربة تنظيم “داعش” في العراق ثم في سوريا لها أسباب عدة. لعل أبرزها اقتناعه بأن إدارة أوباما لن تتعامل معه في حربها على الإرهاب التكفيري. وربما تسبَّب هذا الإقتناع له بصدمة أو بخيبة، ذلك أنه راهن ومن زمان على أنها ستصل إلى يوم تتأكد فيه أن الإرهاب الذي تعدّ الآن لمحاربته على رأس تحالف دولي – اقليمي هو نفسه الذي يحاربه هو منذ اندلاع الثورة الشعبية السورية. ورهانه المذكور كان صائباً جزئياً. فـ”داعش” الذي فاجأ نظام العراق وحليفته الأولى إيران وأقطاب المجتمع الدولي بالسيطرة على نحو ثلث هذه الدولة في وقت قياسي، ودفع كل هؤلاء إلى العمل السريع لمنع “توسّعه” جغرافياً تمهيداً لضربه والقضاء عليه… “داعش” هذا واجه النظام في سوريا بعد نشوب الثورة الشعبية عليه، ويواجه في الوقت نفسه “منافسيه” ممن يحاربونه. ذلك أن هدفه مزدوج وهو التحوُّل التنظيم الوحيد الثائر وتالياً وراثة النظام البعثي “غير الإسلامي” العسكري “العلماني” الأقلوي الذي حكم سوريا منذ نحو 50 سنة. لكن صحة الرهان المشار إليه وإن جزئياً لم تقنع الولايات المتحدة بأن مصلحتها ونجاح المعركة ضد “داعش” وأمثاله يقتضيان تحالفاً أو تعاوناً مع الأسد وحلفائها في المنطقة. فإدارتها برئاسة أوباما وعدد مهم جداً من المسؤولين الكبار فيها يعرفون وبدقة أن النظام المذكور لم يكن يوماً في وارد التصالح مع شعبه وتحديداً غالبيته المعادية له لأسباب متنوعة أهمها مذهبي، رغم التظاهرات الحاشدة السلمية التي سارت في شوارع دمشق والمحافظات السورية الأخرى مطالبة بالإصلاح. ويعرفون أيضاً أنه بادرها بالقمع العسكري، وباستعمال مفرط للقوة بحسب التعبير الديبلوماسي، اقتناعاً منه بأنه يستطيع القضاء عليها بذلك. وإذا تعذّر عليه هذا الأمر فإنه يحوِّل الإنتفاضة الربيعية ثورة مسلّحة ويدفعها تدريجاً في اتجاه التحوُّل إرهاباً لمواجهة “الإرهاب” الذي مارسه ضدها وضد غالبية شعبه. وهو نجح في ذلك. ولكنه يبدو الآن كمن “لحس المبرد”، كما يقال. فـ”الإرهاب” الذي أيقظه يمنعه من تحقيق انتصار حاسم، ويبقيه في حال قلق، ويبعد الاستقرار الأمني عن المناطق التي يسيطر عليها. ويعرف هؤلاء أخيراً أن العمل مع الأسد في قمع “داعش” داخل بلاده سيفيد نظامه، لكنه قد لا يخمد الثورة الشعبية عليه. فضلاً عن أنه سيُغضِب حلفاء أميركا من عرب المنطقة ومسلميها وربما يدفعهم إلى أفعال لا يتوقعها أحد. ومن شأن ذلك إلحاق أذى كبير بمصالحها وإدخال المنطقة كلها في أتون الحروب المذهبية.
والمعلومات الواردة من واشنطن عن هذا الموضوع تشير إلى أن أميركا ستستمر في عدم التعامل مع الأسد في هذه المرحلة، وإلى أنها لن تسمح لنظامه بأن يبقى قوياً في المناطق التي يسيطر عليها الآن حتى تنجز مهمة تدمير “داعش” وأمثاله أو إضعافهم، كي تستحيل عودة القوة إليهم في العراق وسوريا. أما التعامل بعد ذلك مع الأسد ونظامه، فإن أميركا لا تمتلك حتى الآن سياسة محدّدة في شأنه. فالخائفون من إيران مثل المملكة العربية السعودية والدول الخليجية عموماً يريدون التخلُّص منه في صورة نهائية. لكن موافقة الإدارة الأميركية على ذلك ترتبط بأمور عدة منها تأكدها من وفاء الدول المشار إليها بالتزاماتها وتعهداتها. وهناك شكوك في ذلك عند البعض من الأميركيين، لكن أصحابها لا يعملون لمصلحة بقاء الأسد. وهم يفضّلون أن يتّعظ من الذي حصل حتى الآن، وأن يقوِّم موضوعياً وضعه وحاله والتطورات الحاصلة كلها. إذ أن ذلك لا بد أن يدفعه إلى الحوار مع المعارضة المعتدلة التي تسعى أميركا إلى إعادتها إلى حجمها وتأثيرها السابقين، وتالياً إلى التفاهم برعاية المجتمع الدولي على إجراء انتخابات عامة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة، وعلى تأليف حكومة تصوغ نظاماً جديداً يؤمِّن حقوق السوريين وحرياتهم بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم واتنياتهم.
إلا أن الأمل في “الحل السلمي” المذكور ليس كبيراً لا داخل سوريا والمنطقة ولا في أميركا. فالحرب بلغت حدودها القصوى، والأحقاد صارت مستعصية على الإزالة، فضلاً عن أن حليفي الأسد، أي إيران وروسيا، قد لا يتركانه يتصرّف بمعزل عن مصالحهما. علماً أن عليه أن يعرف معنى وجود روسيا في اجتماع التحالف الدولي ضد الإرهاب في باريس، وأن يعرف أيضاً أن إيران تفاوض اليوم بدماء السوريين واليمنيين التي امتزجت بدماء لبنانيين.
sarkis.naoum@annahar.com.lb