في منتصف كانون الأول (ديسمبر) 1992 زارني في مكتبي في صحيفة «الحياة» في جدة القيادي بحركة الإخوان المسلمين في الصومال محمد علي إبراهيم، كان لديه بيان يرغب في نشره تحذّر فيه الجماعة من التدخل الأميركي المزمع في بلاده الممزقة، كانت الصومال توشك وقتها أن تكمل عامها الثاني وهي في حرب أهلية طاحنة، لم تدمّر البلد فقط بل أدت أيضاً إلى مجاعة أهلكت أكثر من 300 ألف مواطن من دون أن يلوح أي أمل في الأفق بأن يهتدي أمراء الحرب هناك ويجلسوا على طاولة مفاوضات عوضاً عن التقارع بالسلاح.
توافق ذلك مع رغبة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (الأب) في تنظيف سمعة الولايات المتحدة بعد حرب تحرير الكويت التي انتصر فيها مع حلفائه الخليجيين ولكنها أغضبت بقية الشعوب العربية والإسلامية، بدا الصومال مهمة سهلة، فلو أعاد الأمن له ورتب أوضاعه وهو في طريقه عائداً مع جيشه المظفر لكان دليلاً على أن الأميركيين يتحركون لنوازع إنسانية وليس نفطية كما قيل في أسباب حملة الخليج الأولى، ولكن نظرية المؤامرة طاغية والثقة في الولايات المتحدة منعدمة، وبالتالي لم يكن القيادي الإخواني الصومالي متحمساً للحملة الأميركية وهو في الحقيقة لم يخيّب ظن أي مراقب، فهذه حال الإخوان وسوء تقديراتهم السياسية التي تجلت قبل ذلك بعامين في بدايات بناء التحالف الدولي لطرد صدام حسين من الكويت، فكان موقفهم متشككاً يخدم صدام أكثر من حلفائهم التقليديين في السعودية والخليج، فكانت تلك لحظة مفرقية، كسرت جرة كانت عامرة بينهم ولا يزالون يدفعون ثمن خسارتها.
قلت للسيد إبراهيم، لِمَ تقفون ضد التدخل الأميركي في بلادكم وهي كما ترى ممزقة ولا أمل بأن تستطيعوا وحدكم الخروج من هذا الاحتراب؟ استعرض معي نظريات المؤامرة السائدة وقتذاك، أن الأميركيين قادمون لمحاصرة المد الإسلامي في السودان (كانت ثورة الإنقاذ في سنواتها الأولى وقد بدأت الضغوط عليها بعدما ارتكبت خطيئة الانحياز لصدام حسين) أو أنهم آتون طمعاً في اليورانيوم الصومالي وليس حباً في الشعب البائس هناك.
قلت له أما السودان فما لكم وما لهم، اتركوهم يرتبوا أحوالهم وينقوا شوكهم بيدهم، ابدأوا بنفسكم، هذه فرصة، وأنتم كإخوان ضعفاء ولكنكم متعلمون، تعاونوا مع الأميركيين في وقف الحرب الأهلية وتشكيل حكومة وطنية ثم شاركوا فيها لبناء صومال جديد، واسترسلت معه حول مؤتمر للمانحين يمكن أن يعقد بعد ذلك فتنهال المساعدات ويخرج الصومال أفضل حالاً، قطع علي تفاؤلي بحدة الصومالي عندما يغضب «قلت لك هل تحسب أنهم آتون طمعاً في خضر عيوننا، إنهم طامعون في اليورانيوم».
أجبته ببرود «وحينها سيتوقف العمل في المفاعل النووي الصومالي!»، لم يعجبه ردي وقال إنني أسخر منه، وحمل البيان وكاد أن يغادر المكتب، ولكني هدأت خاطره وأرسلت البيان إلى الصحيفة حيث نشر مختصراً في صفحة داخلية. وأعترف بأنني لم أكن دقيقاً، إذ اخترت منه ومن الحديث مع السيد إبراهيم عبارات توحي بأنهم مستعدون للتعاون مع القوات الأميركية، بالطبع عتب علي في اليوم التالي، ولكننا لم نغيّر التاريخ، فلا هم تعاونوا، ولا الأميركيين نجحوا، وإنما انسحبوا بعد ستة أشهر إثر اكتشافهم أن لا شيء يجيده الصوماليون أفضل من الحرب والموت، ولا يزال الصومال حتى اليوم وبعد 20 عاماً يعاني من حرب أهلية قبيحة تحولت من اقتتال قبلي إلى إرهاب وتطرف تقوده «القاعدة».
استحضرت هذه القصة وبين يدي تصريح لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، الذي حان الوقت أن يحافظ على هيبته كفقيه بترك السياسة، يرفض فيه أن تحارب الولايات المتحدة تنظيم “الدولة الإسلامية”، قائلاً: «أنا أختلف مع داعش تماماً في الفكر والوسيلة، لكني لا أقبل أبداً أن تكون من تحاربهم أميركا». وبرر موقفه بأن أميركا «لا تحركها قيم الإسلام بل مصالحها وإن سفكت الدماء».
إنه نفس موقف القيادي الصومالي الذي التقيته بمكتبي قبل 20 عاماً ولا أعرف أين انتهى، كما لم ينفرد بهذا الرأي الشيخ القرضاوي، وإنما شاركه فيه إخوان الأردن، ومصر، والأغرب حتى إخوان سورية الذين هم وبلادهم في أمسّ الحاجة للتدخل الخارجي لإسقاط نظام الأسد، الذي كال عليهم وعلى عموم الشعب السوري أصناف العذاب، أعلنوا بخطابيتهم المعهودة رفضهم التدخل الأجنبي في بلادهم، مفضلين أن يُرفع الحظر عن توريد السلاح للثوار السوريين القادرين على إسقاط النظام وحدهم!
إخوان الأردن أضافوا هاجساً آخر في بيانهم الذي لا يقل بلاغة وحماسة عن سابقيهم، فقالوا إن التدخل «محاولة لتقسيم جديد لمنطقة الشرق الأوسط وقتل أهلها». كما لو أن الشرق الأوسط لا يقسّم الآن بيد أهله الذين يقتلون بعضهم بعضاً أيضاً. أما بيان إخوان مصر فهو الأكثر تشريقاً وتغريباً، فلمّح إلى مؤامرة كبرى تحاك من خلف الحرب على «داعش»، مستشهداً بصراع وقع بين مالطي ومصري اتخذته بريطانيا ذريعة لاحتلال مصر، ثم عرج على أن الغرب رفع شعار مكافحة الإرهاب «ذريعة للعدوان على العالم الإسلامي وتمزيقه واحتلال بلدانه»، ومن هناك إلى ظلم أميركا للهنود الحمر، واستخدامها القنبلة الذرية ضد اليابان، إلى آخر هذا الخطاب المعتاد الذي يصلح مقالة لصحافي ناشئ متحمس وليس لحزب سياسي وصل يوماً إلى السلطة وتعامل مع الولايات المتحدة طولاً وعرضاً وفوق الطاولة وأسفلها.
هذا النمط من التفكير والتحليل السياسي يوقع «الإخوان» في عثرات مكلفة، ولكنهم يعودون إليه المرة تلو الأخرى وكأنما لم يتعلموا من الدرس السابق، فلماذا؟ إنه خطاب «مواقف» تبحث عن تصفيق أو صرخات «الله أكبر»، وليس سياسة تتطلب أفعالاً على الأرض، هل لأن قيادات الإخوان تخرج من محاضن تربوية في الغالب، مشغولة بالوعظ والمثاليات؟ أم إنه التقدم في السن بعد عمر أمضوه خارج السياسة الحقيقية، فلم يكتسبوا مهارات السياسة ومكائدها ولا حتى فقه تغليب المصالح.
تخبط «الإخوان» في مسألة التحالف الدولي ضد «داعش»، نموذج بسيط لأزمتهم السياسية، بالمقارنة بخطئهم الكارثي في مصر، ولكنّ كليهما وغيرهما من الأخطاء تستوجب ثورة من داخلهم، تقصي قياداتهم الهرمة وتستبدلها بشباب أكثر وعياً، أو الأفضل من ذلك، أن يقتصر دور الجماعة على الدعوة والوعظ والإرشاد، ويتركوا السياسة لمن يجيدها