بات من المسلم به من دون أي جدال، أن حملة القصف الجوي التي باشرت بها الولايات المتحدة ضد تنظيم “داعش”، ستظل قاصرة حتى وإن تصاعدت وتيرتها، إذا لم تواكبها حملة برية منسقة، تمسك بالأرض وتقضي على ملاذات “الدولة الإسلامية”.
وفق هذه الفرضية، فإن السؤال هو: ما هي هوية القوات البرية التي سيناط بها إنجاز هذه المهمة، طالما أن الدول الغربية تعلن سلفاً أنها لن ترسل مقاتليها إلى بلاد الرافدين، وأن الدول العربية، كذلك، لن تتورط هناك؟
تراهن واشنطن لإنجاح مهمتها هذه على قوات البيشمركة في المدى العاجل، وعلى الجيش العراقي في وقت لاحق. فهل تستطيع هاتان القوتان، حقاً، كسب الحرب ضد “داعش”؟
تزودنا الدروس المستقاة من حروب الشرق الأوسط، لاسيما الحروب العربية-الإسرائيلية، بعدد من المعارف التي سأختار ثلاثا منها، تخدم الغاية من هذا “الديالوغ” الناشب حول المآلات المحتملة لحرب جديدة، وطويلة على الأرجح.
الأولى، أن انهيار الجيوش يشبه انهيار السدود. ولهذا، فقد قرر جمال عبدالناصر، عندما أراد إزالة آثار عدوان حزيران (يونيو) 1967، إعادة بناء جيش مصري جديد؛ قيادة وعقيدة وضباطاً وجنوداً، ولم يلجأ إلى ترميم الجيش الذي انهزم في تلك الحرب.
الثانية، أن اسرائيل المتفوقة عسكرياً على كل الدول العربية مجتمعة، كانت تحرص على ألا تخوض أياً من حروبها على جبهتين معاً. فما بال “داعش” وهو يخوض حربا لا تذر على عدد لا يحصى من الجبهات المتباعدة؟
الثالثة، أن الإعلام المضلل، حتى لا نقول الكاذب، كان سبباً في تعميق الخسارات العربية، وفي تهبيط الروح المعنوية، تماماً على نحو ما حدث في الحروب السابقة مع إسرائيل، لاسيما خلال حرب العام 1967. وها نحن نرى الإعلام الحربي العراقي يكرر التجربة.
نستحضر كل هذه الأمثلة من الذاكرة الغضة، في معرض الإجابة عن سؤال: من ذا الذي سيتولى خوض الحرب ضد “داعش” على المسرح الممتد على جانبي الفرات وبادية الشام، إذا كنا نعلم أن الجيش العراقي قد انكسر في الموصل، وأن إعادة بنائه تحتاج، وفق التقديرات الأميركية، إلى عشر سنوات؟
نعلم أيضاً أن قوات البيشمركة فقدت صورتها السابقة، كقوة شديدة البأس مكونة من مقاتلين جبليين أشداء، منذ أول اشتباك لها مع “داعش”، وأنه ليس في وسعها القتال طويلا خارج نطاق الإقليم الكردي، باعتبار أن أولى أولوياتها الحفاظ على أمن الاقليم.
وعليه، فإنه لا يمكن تصديق أن تلك القوات التي انكسرت بصورة مروعة في حزيران (يونيو) الماضي، باتت قادرة بين عشيّة وضحاها على إعادة الكرّة من جديد، وتحقيق كل هذه الانتصارات التي يتحدث عنها الإعلام العراقي الموصوف تقليدياً بالمبالغات، بما في ذلك تقارير مراسلي الفضائيات العربية الذين يستقون معلوماتهم من مصادر إعلام غير موثوق.
في مقال سابق، كنا نتساءل عما إذا كان “داعش”، بتكتيكاته الحربية الاستفزازية، يستدرج أميركا إلى القتال في الموضع الذي خسر فيه “المارينز” حربهم ضد مقاومة عراقية كانت أقل عدداً وتجهيزاً وخبرة عسكرية مما هو عليه حال تنظيم “الدولة” الآن، وها نحن اليوم نميل إلى صحة هذا الافتراض. ذلك أنه في ظل معطيات ترجح بقوة أن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لن تتورط في حرب برية، وأن حال الأوروبيين كحال شركائهم الأميركيين، ناهيك عن أن القوات العراقية هي مجرد ميليشيات طائفية ذات أجندات إيرانية، فإن السؤال عمن سيتولى المهمة على الأرض، يغدو سؤالاً بلا جواب.
نحن في زمن الحروب غير المتماثلة؛ إذ لم يعد في استطاعة قوات نظامية إلحاق هزيمة بمقاتلي حرب العصابات. ولعل ما جرى في جنوب لبنان قبلاً، وفي غزة مؤخراً، الدليل الملموس على ذلك. كما سقطت أيضا مقولة أنه لا يمكن خوض حرب بلا غطاء جوي، وأن التفوق التكنولوجي يفعل الأعاجيب وحده.
إزاء ذلك، من المرجح ألا يتمكن تحالف الأربعين دولة من هزيمة “داعش”، وأن يتفاقم الوضع أكثر فأكثر، مع حديث الأميركيين عن حرب تمتد لجيل كامل، قد يعمق فيها تنظيم “الدولة” جاذبيته، ويزيد عدته وعديده الذي يبلغ الآن أضعاف ما تقدره وكالات الأمن الأميركية.