غير مسموح للحكومة بعد اليوم التحجج بالأزمة الخانقة التي تعاني منها الموازنة العامة، لتبرير عدم الاستجابة لمطالب مالية تصدر عن أي فئة مجتمعية؛ فهذا الكلام لم يعد ينطلي على أحد، طالما أن السادة المشرعين “باسم الشعب”، نواباً وأعياناً، قد منحوا أنفسهم امتيازا ماليا في خضمّ أصعب الظروف المالية التي يمر فيها البلد.
فبعد إقرار قانون التقاعد المدني، ومنح أعضاء مجلس الأمة بغرفتيه رواتب تقاعدية تساوي رواتب الوزراء، لن يقنع عاقل منصف بالتبريرات والذرائع التي تسوقها الحكومة لرفض المطالبات المالية الصادرة عن فئات أخرى.
الوضع المالي للخزينة كارثي، والعجز تاريخي، وفاتورة الرواتب والتقاعد عموماً تجاوزت حدود المنطق. وجزئية التقاعد هي الأخطر؛ إذ تبدو فكرة ضبط الفاتورة بشأنها “بدعة”، وهي التي نمت خلال السنوات الماضية بشكل مطرد، لتتجاوز 1.1 مليار دينار، بعد أن كانت في حدود 377 مليون دينار قبل نحو عشرة أعوام.
الزيادة التي طرأت على فاتورة التقاعد ترتبط مباشرة بأصحاب المعالي والسعادة، من وزراء ونواب، يعتقدون أنهم مواطنون “سوبر”، ويستحقون نتيجة ذلك نظاما تقاعديا مختلفا؛ فهم لا يخضعون لتقاعد الضمان الاجتماعي الذي جاء ليلغي التقاعد المدني ويخفف العبء عن الخزينة، لكن وللأسف حقق هذا الأخير قفزات كبيرة.
نمو فاتورة التقاعد عاما بعد عام مؤشر يلزم ضبطه؛ فليست التعيينات ورواتبها هي المشكلة فحسب، كونها تزيد الإنفاق الجاري، بل تبدو المعضلة الكبرى في نمو كلفة التقاعد الذي بات تعبيرا عن امتياز لكبار المسؤولين. مع الإشارة إلى أن جميع العاملين، مدنيين وعسكريين، باتوا يخضعون لتقاعد “الضمان” بعد العام 2003، ولم تبقَ ميزة التقاعد المدني إلا لـ”حملة الألقاب”.
مشكلة الحكومة أنها، وتنفيذا لرغبات أعضاء مجلس الأمة بزيادة امتيازاتهم، لم تُسمعنا شيئا من سيل الكلام حول العجز والدَّيْن وضعف الحال، وتبخرت الديباجة التي استعملتها الحكومة لرفض مطالب فئات أخرى أقل حظا من النواب والأعيان، على رأسهم المعلمون وعلاوة الطبشورة الخاصة بهم. وقد كنتُ ممن طالب بتأجيل مطالب مجتمعية لحين ميسرة، مراعاة للوضع المالي، وبالرغم من حقيقة أن معظم العاملين في القطاع العام، عسكريين ومدنيين، يتعايشون مع رواتب لا تكفي لسد احتياجات الحد الأدنى اللائق.
قد ترد الحكومة بأن المشرّع أعطى لنفسه هذا الحق. وهو ما لا يُقبل في الأعراف البرلمانية، لأن فيه تحقيقا لمنافع مالية، عبر استغلال موقعهم الذي أعطاهم حق التشريع للصالح العام وليس لأنفسهم.
وقد تقول الحكومة إنها عجزت عن صد رغبات النواب والأعيان وتعطيل صلاحيتهم بسن القوانين. لكن الظاهر أنها آثرت الصمت، وتعاملت بمعايير مختلفة؛ فمصالحها مع النواب أقوى وأهم بكثير من حاجتها إلى ثقة الناس.
بعد منح النواب والأعيان أنفسهم هذه الأعطية، من يمنع عودة الحراك المطلبي في كثير من القطاعات التي يتعايش أفرادها شهريا مع أزمة نفاد الراتب مع حلول منتصف الشهر؟ وحاجة هؤلاء لزيادة على رواتبهم تفوق بالتأكيد تطلعات السادة أعضاء مجلس الأمة لراتب تقاعدي يضمن لهم “العيش الكريم”؟!
حجم الغضبة وخيبة الأمل من خطوة مجلس الأمة كبير؛ فالأردني القابض على جمر الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة، يجد نفسه يتلقى صفعة قوية من حكومته ومجلس يفترض أن يضم ممثليه، وبما ينسف مصداقية كل الرواية الحكومية حول أزمة الخزينة، وصولاً إلى تهشيم الثقة الشعبية بها من جديد، وتوسيع الفجوة بين الشارع وممثليه من النواب خصوصاً.
الرجوع عن إقرار القانون مصلحة عامة وتحقيق ذلك ينتظر الحكماء. وثمة حديث يسري عن عدم قانونية ودستورية هذا القانون، لأن دخوله حيز التنفيذ يعني أيضا تكسير كل مبادئ الإصلاح المالي.
أظنّ أن مجلس النواب بهذه الخطوة خسر الكثير، وفقد أمرا تفوق قيمته بأضعاف الراتب التقاعدي، وهو ثقة المجتمع التي لم يتبق له منها إلا القليل. وأظن أن منسوب سوء المزاج الشعبي ارتفع بشكل يفوق توقعات السادة المشرعين، الذين ظنوا أن عدة أيام كفيلة بتبريد ردود الأفعال.
هذا المقال كتب قبل رد الملك لمشروع القانون، ويؤكد ذلك ان حكمة جلالته انتصرت للرأي العام