“.. وها نحن اليوم وفي سيناريو فيلم هوليودي شبيه لسيناريو طالبان أفغانستان والاتحاد السوفيتي, نشاهد الولايات المتحدة الأميركية تنفث الروح في وحش جديد كما أسماه سيلج هاريسون, سواء كان ماردا للبعض أو قزما كما يراه البعض الآخر, إلا أنه يبقى الصناعة الجديدة التي تطالعنا بها المتغيرات الدولية على رقعة الشطرنج الجيوسياسية”.
لا أعتقد أن اختيار العام 2014م, بالإضافة إلى اليوم والشهر وهو 11/9 قد جاء من باب الصدفة التاريخية ليكون العام والشهر الذي تعلن فيه الولايات المتحدة الأميركية تحالفها الدولي ضد تنظيم جديد في القرن الـ21 وهو تنظيم داعش, وهو التاريخ السنوي الذي يعيد لأذهان العالم أحداث أيلول الأسود كما يسمى في الكثير من الأدبيات, والذي ضرب فيه برجا التجارة العالمية بالولايات المتحدة الأميركية, لتشن بعده هذه الأخيرة حربها الكونية العظمى على ما سمي بالحرب على الإرهاب في تحالف دولي شبيه, فالملاحظ في اختيار هذا العام أنه يأتي تزامنا مع مرور 20 عاما بالتحديد عن العام الذي أعلن فيه رسميا عن ولادة حركة طالبان في أكتوبر من عام 1994 بولاية قندهار جنوب أفغانستان كحزب أو حركة سياسية عسكرية متماسكة ومستقلة, وهنا نطرح السؤال الآتي: هل سيتم تنفيذ الحرب المتوقعة على تنظيم داعش في الشهر القادم, أي في شهر أكتوبر من العام 2014م تزامنا مع ذكرى مرور 20 عاما من ولادة حركة طالبان الأفغانية!؟
قصة صناعة العدو “طالبان” بدأت قبل 35 سنة تقريبا, وبالتحديد بتاريخ 27/12/1979م حين أرسل الاتحاد السوفيتي قواته إلى أفغانستان بهدف احتلالها, تلاه مباشرة تدخل الولايات المتحدة الأميركية في ذلك البلد بهدف دعم حركة طالبان والحركات المناهضة للشيوعية في صراع طبيعي في حينها بين قوتين عظميين على السيطرة والسيادة على رقعة الشطرنج الدولية, والتي كانت أفغانستان على قمة قائمة الأهداف الجيوسياسية المهمة لكلتا الدولتين, وهذه هي النظرية التي كانت سائدة حتى وقت قريب من نهاية القرن العشرين.
صحيح أنه بالرغم من أسبقية التواجد السوفيتي في الأراضي الأفغانية إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية بدأت العمليات ـ التواجد الاستخباراتي ـ في أفغانستان قبل الغزو السوفيتي التام بخلاف الاعتقاد السائد, وقد اعترف مستشار الأمن القومي السابق في عهد الرئيس كارتر, زبيجنيو بريجنسكي أن الاميركيين قاموا بعملية من أجل التسلل إلى أفغانستان قبل أن ترسل روسيا جنودها في الـ27 من ديسمبر 1979م.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية أنه بحسب مسؤول أميركي سابق رفيع المستوى, نفذت الولايات المتحدة الأميركية عملية سرية في أفغانستان تدعم “العصابات” المناهضة للشيوعية قبل ستة أشهر على الأقل من غزو الاتحاد السوفيتي, وبذلك تتهاوى النظرية القائمة على أن دعم الولايات المتحدة الأميركية لأفغانستان كان بعد دخول الاتحاد السوفيتي وليس قبل ذلك, وهو مرتبط باستراتيجية المساعدة وليس المؤامرة لإسقاط الشيوعية.
والحقيقة هي أن للولايات المتحدة الأميركية كان لها اليد الطويلة في ذلك الانهيار المدوي من خلال التآمر والتخطيط الاستخباراتي وخلافه، وليس من خلال المساعدة القائمة على دعم عمليات الطالبان والأحزاب الأخرى المناهضة بالدعم اللوجيستي والعسكري فقط، كما أشارت العديد من الدراسات حول ذلك, وكذلك من خلال زرع حالة الفوضى والاضطراب السياسي بين صفوف الأحزاب الأفغانية نفسها, وتجميع وتشكيل قيادات داخلية ثورية موالية لها مبدئيا باستطاعتها إعلان الحرب على الحكومة المدعومة من الاتحاد السوفيتي.
ويؤكد ذلك رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية CIA السابق روبرت جيتس في مذكراته “من بين الظلال” أن الاستخبارات الأميركية بدأت بمؤازرة الثوار في أفغانستان قبل ستة أشهر من تدخل الاتحاد السوفيتي, ولم تقتصر المساعدات الاستخباراتية الأميركية على العمليات الاستخباراتية المباشرة كما أشرنا سابقا, بل تعدتها إلى زرع بعض المفاهيم والمصطلحات الدينية الروحية والثقافية الاجتماعية, وبث نزعة الثورة وروح الانقلاب على الظلم والاضطهاد الذي رسمته في الصورة الفولاذية للشيوعية المتوحشة والبعيدة عن الحرية والعدالة والديمقراطية والمعادية لأحكام الدين الإسلامي, فوفرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالتحالف مع الاستخبارات العسكرية الأفغانية مساعدة عسكرية سرية وتدريب وتوجيه للثوار الأفغان, وشملت العملية التي رعتها الولايات المتحدة الأميركية إرساء أسس عقيدة متطرفة مشتقة من الدين الإسلامي, إلا أنها تحرف تعاليمه الأصلية.
وفي النهاية تم قيادة الاتحاد السوفيتي إلى حتفه بطريقة مبدعة وغير مباشرة كفلت القضاء عليه وإغراقه في بحر من الظلمات والدماء والخسائر الاقتصادية التي تفاخر بها بريجنسكي بعد ذلك من خلال تنظيم طالبان أفغانستان, فعندما سئل بريجنسكي عما إذا كان نادما على فعله أجاب: أندم على ماذا؟ على فكرة رائعة كفلت استجلاب الدب الروسي إلى المستنقع الأفغاني, وتريدني أن أندم؟! ففي اليوم الذي اجتاح فيه الجيش السوفيتي الحدود الأفغانية أبرقت إلى الرئيس كارتر قائلا: الآن لدينا فرصة إهداء الاتحاد السوفيتي فيتنامه الخاصة, وبالفعل فقد تكبدت موسكو طوال عشر سنوات عناء حرب لا طاقة لها على احتمالها, فتداعت معنويات جيشها في البدء, ثم انهارت الإمبـراطورية السـوفيتية بـرمتها).
وسارت التحولات الداخلية في أفغانستان وحتى تلك الدولية في حينها على الطريقة التي رسمت خريطتها وأرادتها الولايات المتحدة الأميركية, ولكن كما يقال إن بقاء الحال من المحال, وانقلب المارد الصنيعة على مهندسه وصانعه, وارتد السحر على الساحر, وهو أمر حذر منه الكثير من الخبراء السياسيين والعسكريين والأمنيين الأميركيين حينها, يقول أحد الذين تنبأوا بخطورة هذا القزم السياسي والعسكري الذي ربما تحول إلى مارد يصعب السيطرة عليه بعد ذلك، وهو الأخصائي في شؤون آسيا الوسطى من مركز ودرو ويلسون الدولي للعلماء سيلج هاريسون فيقول: (حذرتهم من أننا ننفث الروح في وحش, وجاء ردهم ـ أي القيادة في أميركا ـ بأن هؤلاء الأشخاص متطرفون، وكلما كانوا عنيفين حاربوا السوفييت بشكل أعنف).
وها نحن اليوم وفي سيناريو فيلم هوليودي شبيه لسيناريو طالبان أفغانستان والاتحاد السوفيتي, نشاهد الولايات المتحدة الأميركية تنفث الروح في وحش جديد كما أسماه سيلج هاريسون, سواء كان ماردا للبعض أو قزما كما يراه البعض الآخر, إلا أنه يبقى الصناعة الجديدة التي تطالعنا بها المتغيرات الدولية على رقعة الشطرنج الجيوسياسية, فمن طالبان العام 1994م إلى داعش العام 2014م, ومن أفغانستان إلى سوريا والعراق وربما تحتاج المشاهد إلى توسع بقعة التصوير إلى بقية أرجاء عالمنا العربي وبعدها إلى بقية أرجاء العالم.
إذًا، فتنظيم داعش هو العدو الجديد الذي أعلنت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الحرب العالمية الجديدة عليه, الغول الذي ستخيف به الأطفال قبل النوم, والكبار عندما يتحركون في الطرقات البعيدة عن الضياء الذي وضعته في آخر نفق الإرهاب, وهو الامتداد للفكرة القديمة المتجددة التي تحدثنا عنها لخلق وصناعة أعدائها بنفسها؛ أعداء حقيقيين أم وهميين, ففي النهاية الغاية واحدة وهي خلق الأجواء المناسبة لجعل العالم يسير خلف مخاوفه, ويتمسك بشعارات جوفاء فضفاضة تتعهدها الولايات المتحدة الأميركية من أجل خدمة أطماعها الإمبريالية التوسعية في العالم, كمحاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية والمطالبة بحقوق الإنسان، ولكن بطريقة ونكهة أميركية.
فهي أدركت أن الخوف والرعب والحروب وسيلة مناسبة لإخضاع العالم تحت تلك الشعارات, وحتى الداخل الأميركي لم يسلم من تلك الوسائل المشبوهة, فمن يضع الاستراتيجيات يدرك أن الشعب الأميركي بحاجة إلى شحذ وتهيئة نفسية للإيمان بتلك الأفكار المعقدة, وتحت شعار كما استطعنا أن نحرك الجسد الخارجي بالخوف فبإمكاننا أن نفعل ذلك بالداخل الأميركي, وبالفعل فقد تحقق ذلك من خلال نفس الوسائل (وتحت قناع كاذب من معاداة الاستعمار بهدف حماية إرادة أميركا الطيبة التي تملكها أميركا في العالم, ولاستبدال الإمبراطوريات القديمة بوسائل عالمية متقدمة ومتطورة من السيطرة العالمية).
ويطالعنا في هذا السياق الكاتب الأميركي جون ليونارد بمقال جميل وحساس في الذكرى الأولى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 تحت عنوان “أين سنكون من دون حروب”، وهو تعليق على مقال آخر لكاتب أميركي مشهور وهو جيمس ماديسون والمعنون بأكثر أعداء الحرية إثارة للرهبة، والمكتوب في عام 1973 عن استراتيجية الغاية من الحروب والقتل والدماء، فيقول معلقا إن الحرب أصل القوات وعنها تتأتى الديون والضرائب, وتعتبر القوات والضرائب وسائل معروفة لسيطرة الغالبية على القلة, وإذا بالرواتب تتضاعف, وتضاف وسائل إغراء العقول إلى وسائل إخضاع القوة؛ أي في النهاية إن الحرب هي وسيلة مناسبة للحصول على أهم الغايات بأبسط الوسائل والإمكانيات.
نعم, لا يجب أن نتصور أن افتعال الأحداث أو السعي خلف الظلال أو مواجهة الأوهام, أو محاربة طواحين الهواء هو شيء ساذج وغير متوقع أو ممكن أبدا في عالم الاستراتيجيات السياسية الدولية الحديثة, فهذا هو العالم الذي نعيش فيه, عالم يتحدى الواقع والمعقول, وسياسات دولية لا أخلاقية تتعدى حدود المستحيل والتصور, وعلى رأس تلك الاستراتيجيات والخطط المستقبلية, فكرة إنشاء الأعداء ومحاربتهم, وكما جاء في كتاب السياسي مايكل ريفير والذي يحمل عنوان “تزييف الإرهاب ـ سبيل إلى الديكتاتورية” أن الحكومات المشتبه باشتراكها في اعتداءات 11/9/2001, قد أنشأت تقليدا ساخرا ومهيبا, وأبعد من أن يكون فكرة لا مثيل لها هي أقدم خدعة في كتاب تعود إلى العصر الروماني, إذ تنشئ الأعداء التي تحتاج إليهم.