تتفاقم حالة الإرهاب والتطرف في المنطقة إلى درجة غير مسبوقة من الوحشية والهمجية والتخلف المطلق، و راحت تقتل بأبشع الطرق بدائية كل من لا يخضع لها ،و تدمر المنشآت والمرافق بل و دور العبادة . و غدت تهدد حياة الملايين من المواطنين في كل بلد عربي، فرادى ومجموعات و طوائف و ديانات و مذاهب. و نتيجة لحالة الضعف الاقتصادي والإداري والسياسي المزمن التي تعيشها المنطقة و بسبب الخلفية الثقافية الفكرية العقائدية المشوشة والمشوهة في كثير من الأحيان التي تتسلل إلى عقول و نفوس الشباب، وغيرهم من عامة الناس، نجحت الحركات الإسلامية المتطرفة الإرهابية في الاستيلاء على الأراضي والأموال والأسلحة في أكثر من بلد عربي. وراحت تعمل على تفكيك الدول، وتجزيئها إلى ولايات وإمارات، بإسم الخلافة وبإسم دولة الإسلام. والأخطر من كل ذلك أنها تجد بيئة مجتمعية وفكرية و دينية حاضنة تعطيها الثقة والمدد.
ومع التأكيد بأن دولا، وأفرادا متبرعين مخدوعين أو ناقمين،و قوى سياسية و إياد استخبارية أجنبية كثيرة ساهمت في إنشاء هذه المجموعات و تزويدها بالمال والمعدات والسلاح وربما بالمواقع والمخططات، إلا أن ذلك ليس كل شيء. ولا بد من مواجهة الحقائق في المنطقة العربية ذاتها ،لأن العلة الحقيقية هي داخل الجسم العربي بالدرجة الأولى و ليس خارجه . و تكمن الخطورة في أن موجات التطرف غدت سريعة الانتشار في مجتمعات تصل البطالة فيها خارج المدن إلى أكثر من 20% والفقر يتعدى 35% و مؤشر الديموقراطية أقل من 3.5 في مناخ من اليأس والإحباط والفشل السياسي والإخفاق الاقتصادي والفساد، والحكم الفردي والشمولي، والمراوغة والمهادنة، إضافة إلى تراجع التعليم والعلم والفكر و القيم والثقافة لسنوات طويلة. فأصبحت المنطقة بيئة حاضنة لكل تمرد على الدولة وخروج على القانون، وأصبح بإمكان أي فرد أن يختطف الدين تحت سمع و بصر الجميع في الجانب الرسمي و الأهلي، و يكفي أن يلبس جلبابا ويطلق لحية ويجمع حوله مجموعة من المريدين، ويأخذ بالإفتاء الديني و الإجتماعي و الفكري والسياسي باسم الإسلام والمسلمين. ولا خلاف أبدا على أن استمرار الإحتلال الإسرائيلي العنصري التوسعي للوطن الفلسطيني بكل ما يحمل هذا الإحتلال من عدوانية و وحشية و كراهية و تآمرية، تتغاضى عنها أمريكا و أوروبا، يمثل محركا دائما لعدم الاستقرار و استنزاف المنطقة، و لإشاعة أجواء الكراهية واليأس والتطرف.
صحيح انه يجري الآن العمل على إنشاء تحالف دولي ضد الإرهاب وبشكل خاص ضد “داعش”، إلا أن المساحات التي سيعمل فيها هذا التحالف ستكون في معظم الحالات مساحات عسكرية لضرب قواعد وتجمعات هذه الحركات، ومساحات أمنية لمتابعة تحركاتها ومحاولة تجفيف منابع القوة و الإمداد لها.
وعلى أهمية العمل العسكري والأمني الذي يجب أن يتصاعد، فإن المسألة أعقد من ذلك، وتتطلب نفسا طويلا و العمل على جبهات عديدة على المستويات الوطنية والدولية و الحكومية والشعبية. إن البوابة الرئيسية لمواجهة هذه الحالة ومنع احتمال تسربها اليوم أو غدا، هي” الإرادة الوطنية القاطعة برفضها و محاربتها تنظيميا و فكريا و عقائديا و دينيا و إعلاميا و ثقافيا و رفض جميع الإقترابات و الإستمالات و التخريجات و التبريرات و التأويلات التي تجعلها جزء من الإسلام أو جزء من الإدارة بأي شكل أو معنى”.
وهذا يتطلب أولاً: أن تباشر الدولة تنفيذ برنامج إقتصادي اجتماعي عاجل يقوم على المشاريع الإنتاجية باتجاه تصنيع الإقتصاد و إعطاء الأولوية للمحافظات و المناطق الأكثر حاجة. فلا تغيير حقيقي في المفاهيم والفكر والثقافة دون تغيير جذري في بنية الإقتصاد من خلال التصنيع.أما “الإقتصاد الريعي” فإن الحركات المتطرفة بما يصلها من أموال أصبحت تتفوق فيه على الدول. ثانيا أن يتم وضع برنامج معمق يتحرك بموجبه رجال الدين وخطباء المساجد و الإعلاميون تحت مظلة فكرية منظمة واضحة لتبيان زيف ادعاءات تلك الحركات ،وأنها ضد الوطنية و الإنسانية و ضد الدين وليس صورة من صور الدين، ولا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد، وإنها خروج همجي عدواني صارخ، و لا تمثل أحدا إلا أعضاءها. فلا يمثل الوطن و المواطنين إلا من لهم حق التمثيل وفق القانون والدستور. ثالثا: أن تعلن جميع الأحزاب والجماعات والتيارات السياسية و الإسلامية بشكل خاص و بكل وضوح وقوة رفضها القاطع لهذه الحركات سياسيا وعقائديا، وتعلن البراءة السياسية المطلقة من كل ما ينادي به المتطرفون والإرهابيون والخارجون على القانون، وان تصدر المنشورات الداخلية والتعليمات الحزبية بهذا الاتجاه، وتعيد تثقيف أعضائها بفكر جديد مستنير معاصر. إن بقاء التيارات والأحزاب الإسلامية على الحياد أو في الظل أو الإشارة بخجل شديد إلى الحركات المتطرفة ،هو تأييد غير مباشر لتلك الحركات وحلفائها وما يماثلها. رابعاً: أن المنطقة تمر في مرحلة تفكيك وتدمير اقتصادي اجتماعي و إنساني، وعلى القوى الإسلامية وسواها أن لا تعتبر هذا فرصة جيدة للانتقام من أعدائها السياسيين، وتقف من الدول والمؤسسات التي تتعرض للإرهاب بإسم الدين أو تحت أي ادعاء آخر موقف المتفرج والمتشفي، كما يجري الآن في مصر و ليبيا و اليمن و غيرها. إن الارهاب والهمجية و التكفير والتسلط لن يبقي على احد: سواء كان معتدلا من هذا الفريق أو ذاك. خامسا: أن على الأحزاب جميعها، بكافة اتجاهاتها الفكرية والعقائدية، أن تشكل جبهة وطنية تقدم الدعم والمساندة للمواطنين وتبصرهم بطبيعة الحركات المتطرفة، وأن تكون هناك خطط مشتركة مع الدولة و منظمات المجتمع المدني والمثقفين والأكاديميين حتى تجتاز البلاد والمنطقة هذه المرحلة المعقدة . سادسا ضرورة إجراء مراجعة معمقة لمناهج التربية والتعليم و الأداء التعليمي و المواد الثقافية والرسالة الوعظية والدينية لتطويرها و دفعها باتجاه التسامح، و الاعتراف الواعي بالتنوع، والمشاركة المتكافئة مع المكونات المتعددة للمجتمع، سواء كان هذا التنوع في الفكر أو الثقافة أو الدين أو المذهب أو الطائفة أو الجهة أو الأصل. فالوضع الطبيعي الصحيح الذي ينبغي أن يستقر في العقول و النفوس لأي مجتمع، و خاصة لدى الشباب، أن يكون متعددا بمفهوم عصري، لا أن يقوم على تصنيفات قديمة للناس و المذاهب والطوائف لا تتوافق مع الدولة المدنية الحديثة التي تقوم على المواطنة والقانون.
إن المستقبل المزدهر لا يبنيه التطرف ولا الإرهاب أبدا، ولا التعصب العرقي أو الديني أو الطائفي ، و إنما تصنعه الشعوب المستنيرة بالعلم والعقل والإنتاج ، وتحفظه المجتمعات المتآلفة بالإقتناع و التوافق والمشاركة والثقة بالوطن.
د.ابراهيم بدران/مواجهة الإرهاب والتطرف… مسؤولية مشتركة
10
المقالة السابقة