الجهاد المبرور الذي خاضه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على مدى اثنين وخمسين يوما شكل معجزة القرن، ولاسيما أنه جاء في مرحلة الهوان العربي، واغتيال الربيع، والردة عن الديمقراطية. وهو جهاد خاضه كل أهالي القطاع، كل من موقعه، فالمقاومة الباسلة قدمت ألوانا من الإبداعات في معركة العصف المأكول: إبداع في التصنيع الحربي لتصل صواريخها إلى جميع أرجاء فلسطين، وتحلق طائرات من صنع القساميين في سماء تل أبيب، وتقنص بندقية غول جنود العدو من مسافة 2 كيلو متر، وتخترق قذائفها دبابات الميركافا، وتفرض على مطار بن غوريون حصارا تاما، وتلجئ خمسة ملايين صهيوني إلى الملاجئ، وتهجر سكان مغتصبات غلاف غزة، وإبداع في الإرادة والثقة بالنفس والصبر والمصابرة، وإبداع في التخطيط والعمل الاستخباري ورصد العملاء، وإبداع في المصداقية حيث جذبوا الرأي العام الصهيوني لمتابعة بياناتهم، بعد أن فقد الثقة بحكومته.
والشعب كل الشعب كان في المعركة، وعلى قدر التحدي، بالتفافه حول المقاومة الباسلة، على الرغم مما ناله من جرائم العدو، الذي ظن أنه باستهدافه المدنيين العزل، والتدمير الممنهج للأحياء والمساجد والمشافي والمدارس سيحمل أهل غزة على الانفضاض عن المقاومة، ورفع الراية البيضاء، ولكن الشعب هناك كان على مستوى مقاومته، صبرا وثباتا وتمسكا بمطالب المقاومة.
هذا النصر العزيز الذي صنعه أبطال غزة، أو صنعه الله على أيديهم، حيث كانت مشيئته معهم، وعينه تكلأهم، فتنزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، هذا النصر الذي ابتهجت له غزة، وتعالت على جراحها، فخرجت الى الشوارع تعبر عن عميق فرحها، كما ابتهجت له الأمة كل الأمة، يؤمل اليوم الحفاظ عليه، والمراكمة عليه حتى يجيء وعد الله بتحرير فلسطين كل فلسطين، وكنس الصهاينة ليلحقوا بمن سبقهم من فلول المحتلين، فالنصر الذي تحقق عظيم، والجهد الذي بذل من أجله عظيم كذلك، لكن الأعظم من هذا وذلك هو كيف نحافظ على هذا النصر؟ كيف نحافظ على جاهزيتنا، وأن نمضي قدما في تطوير وسائلنا القتالية، وأن لا نسمح للعالم أجمع بنزع سلاحنا؟ كيف نحافظ على وحدتنا الوطنية التي تجلت في أروع صورها في ميدان القتال وفي ميدان المفاوضات غيرالمباشرة؟ كيف نستعد لمفاوضات الشهر القادم لتحقيق بقية المطالب: الميناء والمطار والأسرى الأحرار من صفقة شاليط؟ كيف نخوض المفاوضات من أجل أسرانا البواسل، بعد أن منّ الله علينا في معركة العصف المأكول بصيد ثمين؟ كيف نرقب بحذر تحركات العدو الذي تعودنا أن نرى منه الغدر والخيانة وخلف الوعد ونقض العهد؟ كيف نواجه المؤامرة الدولية التي تسعى لتوظيف هذه المعركة لتصفية القضية الفلسطينية وإسدال الستارة عليها؟
إنها تحديات تنوء بحملها الجبال، لكننا على ثقة بأن الذين بددوا أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأفشلوا مخططات نتنياهو، وجعلوا قادة الكيان الصهيوني يتساءلون ولأول مرة عن مستقبل الكيان، قادرون، بحول الله عز وجل، على أن يخوضوا معركة الجهاد الأكبر بكفاءة واقتدار، مستعينين بالله ومتسلحين بشعب لا يضره من خذله ولا من خالفه. وصدق الله العظيم القائل: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون* وإن جندنا هم الغالبون).
* الأمين العام السابق لجبهة العمل الإسلامي