اللطرون هي لمن لا يعرف، واحدة من ثلاث بطاح، احتضنت كل واحدة منها (مع باب الواد والقدس) أشرس المعارك في حرب العام 1948، ودونت فيها العسكرية الأردنية سطوراً مديدة من البطولة والتضحيات الجليلة، فغدت بذلك خزانة كبيرة للذكريات المثيرة للاعتزاز، ومصدراً للإلهام، وباعثاً على الثقة بالنفس، تتداولها الأجيال بفخر، ويستعيدها الآباء بحنين غامر، كلما سنحت فرصة لترميم الذاكرة المشتركة للمحاربين القدامى، وأبناء ذلك الرعيل من نازحي اللطرون (يالو وعمواس وبيت نوبا).
قبل أيام قليلة، كنا على موعد مسبق مع احتفالية حاشدة، تقاطرت إليها نساء ورجال من مختلف الأعمار، أتى بعضهم من الولايات المتحدة وكندا، وبعضهم الآخر من مختلف ديار الشتات، وشارك فيها الأحياء من المقاتلين، وحضرها أبناء قادة تلك المعارك، ورهط من الشخصيات العامة، في اجتماع مشهدي كان هو الأول من نوعه، لفض شيفرة اللطرون، وسبر غور هذه العاطفة الوطنية المتواصلة بين أبناء القرى الثلاث، وبين شركائهم في المعركة من الكرك والطفيلة ومعان والسلط والشمال.
كان اللقاء الشعبي ثمرة جهد منظم قامت به جمعية تشكّلت حديثاً باسم “جمعية قرى اللطرون”، تنادى إلى تأسيسها نفر من أبناء هذه القرى، ممن اكتشفوا قدراتهم الكامنة خلال اعتصام جرى أمام مقر الأمم المتحدة في عمان قبل عام، فعقدوا العزم على التعرف على أنفسهم أكثر بصورة منظمة، وتكوين إطار اجتماعي ثقافي، يكون مؤهلاً لتحويل كم سكاني بات يبلغ الآن نحو سبعين ألف نسمة، إلى تجمع نوعي قادر على تجديد الذاكرة بملاعب الطفولة، وإحياء قضية هذه القرى المهدمة العام 1967، وقول ما يمكن قوله إذا جد جديد في المجال العام.
والحق، أن حصيلة اكتشاف الذات كانت محل دهشة وانبهار، بعد أن وجدنا أن أبناء وأحفاد الذين تم اقتلاعهم من بيوتهم بالإرهاب والقتل ومكبرات الصوت، قبل نحو سبعة وأربعين عاماً، وهجروا نصف حفاة وشبه عراة مشياً على الأقدام، لا يلوون إلا على مفاتيح منازلهم المتواضعة، قد باتوا يضمون اليوم في صفوفهم رجال أعمال نابهين، ومديرين تنفيذيين، وأساتذة جامعات، ومهنيين كبارا من مختلف التخصصات، ومثقفين وحرفيين وفنانين، الأمر الذي بدا لنا في غمرة هذا الاكتشاف، كأننا طيور الفينيق المنبعثة من تحت الرماد.
على هذه الخلفية، وبعد جهد جهيد، بدأنا عملية بناء قرانا الثلاث في الوعي العام، وإعادة تكوينها في العالم الافتراضي من جديد، لخلق إطار اجتماعي جامع لأبناء هذه القرى، ذات القضية الخاصة في الإطار الأوسع لقضية فلسطين. فكان ذلك المؤتمر التأسيسي الأول، الذي حرصنا فيه على مساهمة شركائنا في معركة اللطرون، من أبناء وأحفاد قادة وجنود الجيش العربي، في عملية إطلاق الجمعية على الملأ، وإشهارها على أحسن ما يكون عليه الإشهار، في مشهد باذخ استنطقنا فيه سر الهوى الأردني المقيم لدينا، أو قل بواطن هذه العلاقة المديدة بين الأردنيين والفلسطينيين.
وأجد من المناسب بين يدي هذه المناسبة، ضرورة القول إن هناك تقصيراً ما، في مكان ما، بحق ذلك السجل المشرّف لمعركة اللطرون، ناهيك عن القدس وباب الواد، وعن استدارة غير مفهومة عن استذكار هذه الصفحة التي لم تكتب كما ينبغي، حول الوقائع الحربية الباعثة على الاعتزاز برجولة مقاتلين أشداء، حافظوا بدمائهم الزكية على عروبة اللطرون، التي ظلت بمثابة قلعة صامدة وراء خطوط الهدنة، يرابط فيها الجيش وأبناء القرى الثلاث، إلى أن وقعت حرب حزيران 1967، التي أسست لكل ما هو عليه اليوم حال الأمة من هوان.
كما أجد لزاماً التذكير بواقعة حربية أخرى، جرت في حرب العام 1967، وهي معركة يحتفل بها قادة إسرائيل كل عام، من دون أن يتذكرها أحد من أولياء دم مئة من ضباط وجنود الجيش العربي، ممن قاتلوا حتى النفس الأخير، إثر انقطاع الإمدادات والاتصالات بينهم وبين قيادتهم، ولم ينج منهم سوى جندي واحد جريح، روى فيما بعد فصول المعركة التي صادقت قوات الاحتلال على صحتها، وسمت المعسكر الواقع في حرش من أشجار الصنوبر الباسقة في حي الشيخ جراح بالقدس، باسم معركة “تل الذخيرة” وواصلت الاحتفال بها في كل عام
عيسى الشعيبي/شيفرة اللطرون
14
المقالة السابقة