عاد الوضع في قطاع غزة الى نقطة الصفر مجدداً. حصيلة من الفي قتيل وثمانية آلاف جريح وخسائر مادية هائلة تقدر بالبلايين لم تسهم في إخراجه من الحصار المضروب عليه منذ سنوات او من حال المراوحة السياسية العالق فيها، ولا يرجح ان تحقق اياً من الشروط الاخرى التي وضعتها الحركة ثمناً لوقف اطلاق الصواريخ. وفي المقابل منيت اسرائيل بأكبر خسارة بشرية في تاريخ حروبها مع غزة، لكن الاهم كان خسارتها المعركة الاعلامية التي طالما استخدمتها للظهور بمظهر الضحية المحاصرة التي تتعرض لهجوم «الارهابيين» وتبرير عدوانها، بعدما تسببت صور اشلاء الاطفال الفلسطينيين في فضح همجيتها.
وفد «حماس» الذي يفاوض في القاهرة يعرف انه لن يستطيع ان ينتزع من الاسرائيليين ما يبرر سقوط كل هؤلاء الضحايا الفلسطينيين، وانه سيضطر الى التفاوض مع الجانب المصري فقط لفتح معبر رفح، وبشروط القاهرة التي تريد ضمان انه لن يستخدم لتسريب الاسلحة والمقاتلين المتطرفين الى الاراضي المصرية. ويعرف ايضا ان اقصى ما يمكن فرضه على اسرائيل هو تهدئة متبادلة مثلما كان الوضع عليه قبل جولة القتال الحالية.
شروط «حماس» وطريقة ادارتها للمعركة ونقاط القوة التي تكشفت لديها أوحت ان الحركة كانت تتحين الفرصة لدخول الحرب وتستعد لها منذ سنوات، وهو ما وفرته لها اسرائيل عندما قررت معاقبة غزة على مقتل ثلاثة مستوطنين في عملية غامضة الظروف والتوقيت، حتى ان بعض المعلقين الاسرائيليين اعتبر ان اسرائيل وقعت في الفخ الذي نصبته لها الحركة وانجرت الى الحرب. لكن «حماس» كشفت وخسرت الورقتين اللتين كان يفترض بها استغلالهما في تحقيق نتائج افضل، أي الصواريخ البعيدة المدى والانفاق.
فبالنسبة الى الصواريخ، صحيح انها تمكنت لفترة وجيزة من تعطيل حركة الملاحة الجوية في اسرائيل وطاولت بها مناطق لم تقصفها من قبل، لكن اضرارها البشرية والمادية كانت متواضعة للغاية، وخصوصا اذا قورنت بخسائر غزة. كما انها ساعدت اسرائيل في الحصول على دعم اميركي اضافي لتطوير منظومة «القبة الحديد» المضادة لها، بعدما اثبتت نجاحها في التصدي لمعظم الصواريخ الفلسطينية. ومع ان تهديد الصواريخ كان قائماً قبل الحرب الاخيرة وسيظل قائماً بعدها، لكن الاسرائيليين يقولون ان «حماس» خسرت نصف ترسانتها الصاروخية وتحتاج الى سنوات لتعويضها.
اما بالنسبة الى الانفاق، فقد تبينت نجاعتها في حالات التوغل البري الاسرائيلي داخل غزة، لكنها لم تحقق الغرض الذي كانت ترجوه «حماس» منها في إلحاق خسائر كبيرة بالاسرائيليين خارج حدود القطاع. وهذا يعني ان جهداً استمر سنوات وبكلفة عالية انتهى عملياً لحظة اللجوء اليه، على رغم ان اعلان اسرائيل عن ازالة تهديد الانفاق ليس نهائياً.
«حماس» ربحت فقط المعركة الاعلامية، ليس لأن لديها إعلاماً ذكياً ومتطوراً، بل لأن العالم صار اكثر حساسية لعمليات القتل الجماعي التي ترتكبها اسرائيل واكثر رفضاً للاستخدام المفرط للقوة، واكثر تأثراً بسيل الصور عن القتلى المدنيين وخصوصاً الاطفال. ولأن اسرائيل تعمدت إلحاق خسائر بشرية كبيرة لردع «حماس» عن مواصلة الحرب، فقد خسرت تأييد الرأي العام العالمي بعدما صدمت حتى حلفاءها واصدقاءها.
أظهرت هذه الجولة ان «حماس» واسرائيل خسرتا المعركة كلاهما، ولم يحقق أي منهما سوى جزء بسيط من «بنك الاهداف» الذي وضعه عندما دخل القتال، ما يعني ان الحرب لم تعد تفيد في تحسين موقع «حماس» في الخريطة السياسية الاقليمية، كما لم تعد تفيد اسرائيل في سعيها الى تدجين الحركة وفرض شروطها عليها، ولعل ذلك يدفع الطرفين الى الاقتراب اكثر من مقاربة وخيارات السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، مثلما يفعلان في مفاوضات القاهرة حالياً.