كثيراً ما تصف البرامج الوثائقية الخاصة بالحياة البرية بعض الضواري، التي تتصدر أعلى مراتب سكان الغابات وحشية، مثل الأسود والنمور والفهود، بأنها خُلقت كي تفترس؛ في إشارة مجازية إلى مدى قدرة هذه السلالات المفطورة على غريزة القتل، وإلى مهارتها في اصطياد الفرائس برشاقة.
وفي أفلام الغرب الأميركي (الويسترن) السابقة زمنياً على موجة أفلام “الآكشن” الراهنة، كثيراً ما كان يُطلق، بإعجاب، على بطل الفيلم وصف مستلهم من عالم البراري، بالقول إن هذا “الكاوبوي” الذي يضع رصاصته في بيت النار دائماً، قد خُلق كي يقتل بتلقائية مفرطة.
وبالاتكاء على مثل هذه الاستعارات، فإنه يمكن وصف وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بأنه الدبلوماسي الذي خُلق كي يفشل على طول الخط، في كل مكان وفي كل مرة، منذ أن تقلد السيناتور الأميركي السابق منصب وزير خارجية الدولة العظمى الوحيدة في بداية الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما.
إذ لم يسبق لوزير خارجية أميركي أن زار منطقة الشرق الأوسط بمثل كل هذا العدد من الزيارات، ولا لنظير أميركي له تولى إدارة كل هذا الكم من الأزمات والملفات. كما لا تسعفنا الذاكرة باسم وزير أميركي آخر، طوال الحقبة الأميركية المديدة، ظل الفشل رفيقاً له حيث حطت عصاه الدبلوماسية هنا أو هناك.
ولعل مؤتمر باريس الأخير، الذي رتبه كيري على عجل، لمعالجة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ناهيك عما سبقه من جولة مكوكية عقيمة في عدد من العواصم المعنية، يمثل الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة الطويلة من إخفاقات ناظر خارجية البلد الأكثر نفوذاً وحضوراً في مختلف أنحاء العالم.
ويكاد المقام لا يتسع لتعداد زيارات كيري إلى المنطقة، إلا أنه يتسع بالضرورة، للتذكير ببعض الملفات التي أخفق فيها إخفاقا تاما؛ من ملف عملية السلام، إلى ملف الأزمة السورية وشقيقتها العراقية، فضلاً عن الأزمة الأوكرانية، وليتوجها اليوم بفشل آخر مدوٍ في ملف الحرب العدوانية الجارية ضد قطاع غزة.
وحتى لا نظلم هذا الرجل المسكون بحسن النية، ونحمله وحده مسؤولية كل هذه الإخفاقات المتواصلة، ينبغي رد هذا الحصاد الدبلوماسي الأميركي البائس إلى افتقار إدارة الرئيس أوباما لرؤية استراتيجية حصيفة لسياسة خارجية لائقة بمكان الدولة القائدة للنظام العالمي الراهن، وهو أمر بات محل شكوى معظم الدول والحكومات، بما فيها الأوروبية.
ومع ذلك، فإن من غير الممكن تبرئة كيري نفسه من سلسلة الإخفاقات المتصلة من دون انقطاع، والتي ظل فيها وزير خارجية الولايات المتحدة المثابر، يتنقل من حلقة فشل إلى حلقة مماثلة، من دون أن يترك له بصمة خاصة، أو أثراً يخصه، حيث بدا وكأنه في سباق مع نفسه كي يجمع كل ما يستطيع جمعه من نقاط فشل محققة؛ فهو لم يستطع توفير البضاعة مرة واحدة، ولم يتعلم من تجربته ولا من أخطائه بتاتا.
وليس من شك في أن مؤتمر باريس، الذي كان فِعْل يدين خالصتين لجون كيري، يمثل أنموذجاً صارخاً للمقاربات الفاشلة التي تتحكم بوزير الخارجية الأميركي، وتسم أداءه المرتجل باستمرار؛ حيث بدا كيري مع وزراء آخرين، كطبيب يدخل إلى غرفة العمليات من دون أن تكون لديه أدوات جراحية ملائمة، ويود أن يجري عملية معقدة.
ولولا هذه الحرب العالمية الباردة التي تشنها إسرائيل على كيري، وكَيْلها التهم جزافاً للرجل الذي يصف نفسه دائماً بأنه صديق الدولة العبرية المخلص، لقلنا بحق وزير خارجية باراك أوباما كلاماً ينضح مرارة؛ إلا أننا نخشى أن يأتي كلامنا متماهياً مع الحملة الإسرائيلية الجارية ضده هذه الآونة.
إزاء ذلك كله، فإنه يمكن القول بأن جون كيري خُلِق كي يفشل، وأنه يصرّ على تدوين اسمه كفاشل كبير في أرشيف وزارة الخارجية الأميركية، الأمر الذي يدعو إلى عدم التعويل، من جانب كل المستغرقين في أزماتهم الطاحنة على امتداد هذه المنطقة، على دور أميركي يمكن له أن يقدم مخرجاً، أو يسعف أحداً، فما بالك عن الرهان على تحقيق تسوية أميركية لأم القضايا الشرق أوسطية.