يعد أسر جندي إسرائيلي في الحرب العدوانية الجارية على قطاع غزة، أحد أشد الكوابيس فظاعة بالنسبة للجيش الذي يدرك سلفاً أنه كان يدخل إلى حقل ألغام محكم، وتنتظره مفاجآت صعبة؛ إلا أن مثل هذه السابقة، حتى وإن كانت لجثة جندي ميت، من شأنها أن تزيد الخيارات التي تواجه إسرائيل تعقيداً، وأن تؤدي إلى إطالة أمد الحرب إلى أكثر مما هو مقرر، وقد يدفعها ذلك إلى رفض مبادرة وقف إطلاق النار التي ظلت تتعلق بها، إلى أن تحقق مكسباً نوعياً تغطي به على خسارة نادرة في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
ومع أن عامل الوقت كان بمثابة سيف مسلط على رقاب كل من المقاومة وإسرائيل، إلا أن عملية أسر جندي في الميدان سوف تخلط الحسابات والأوراق والأهداف؛ الأمر الذي قد يدفع بإسرائيل إلى توسيع نطاق عدوانها، وربما إلى إعادة التموضع في بعض المواقع داخل القطاع المحاصر، لتحسين شروط المساومة على الانسحاب والتهدئة، بما في ذلك إعادة الجندي المخطوف حياً أو ميتاً. بينما سيؤدي ذلك، في المقابل، ليس فقط إلى رفع رأس المقاومة أكثر فأكثر، وإنما إلى رفع سقف مطالبها العادلة حتماً.
وهكذا، فإن نقطة التعادل النسبي التي تحققت بفضل الأداء البطولي للمقاومة، قد حلت محلها الآن نقطة تعادل جديدة أفضل من سابقتها بالنسبة للذين أوقعوا خسائر بشرية باهظة، بالمعايير الإسرائيلية، وجبوا ثمناً نوعيا من حساب القوات الغازية، أهمها أسر جندي خلال معركة التحام بالنار. وهو ما سيعزز النزعة الفاشية الإجرامية لدى المؤسسة العسكرية المدججة بكل عوامل التفوق في البر والبحر والجو، ويعمق لديها شهية القتل، لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه الحرب من الجو.
ووفقاً للعقيدة القتالية المعتمدة لدى الجيش الذي يصنف كرابع جيش في العالم، فإن من المقدر للذئاب الجريحة في هذه الحالة استخدام كل ما لديها من قوة نارية هائلة؛ من دون كوابح أخلاقية أو قواعد حرب مرعية، وبلا اهتمام بالرأي العام في زمن الصورة الرقمية، لإحداث تغيير جوهري في قواعد اللعبة القائمة على مبدأ تهدئة مقابل تهدئة، وذلك برفع معدل الكلفة إلى حدها الأقصى، بما في ذلك تدمير البيئة الاجتماعية الحاضنة للمقاومة، وحمل المقاومين على إعادة النظر في جدوى المواجهة الساخنة مرة أخرى.
ولعل ما جرى في حي الشجاعية من تدمير متعمد للممتلكات، وتهجير منهجي، وترويع للسكان، هو أحد تطبيقات هذه العقيدة القتالية المفتونة بسحر القوة المجردة، أو قل هو النسخة الغزية المعدّلة لـ”عقيدة الضاحية” الجنوبية من بيروت، التي تم تطبيقها في حرب العام 2006. وهي عقيدة مستلهمة من نظرية زئيف جابوتنسكي حول الجدار الحديدي، وقائمة على رد فعل منفلت العقال في ظاهر الأمر، تبدو فيه إسرائيل كدولة جن جنونها، لا قيود على أفعالها الانتقامية الهوجاء ضد كل من يطاله الموت، بمن في ذلك المدنيون الأبرياء.
ومع الأسف، فقد أثبتت “عقيدة الضاحية” نجاعتها فيما بعد، خصوصاً بعد أن عبّر حسن نصرالله عن ندمه علناً، قائلاً: لو كنت أعلم لما فعلتها. ثم ارتدع على مدار ثماني سنوات متواصلة من دون أن يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، ومضى بعد ذلك بعيداً عن المواجهة التي بررت وجوده أساساً، بتحويل فائض قوته نحو الداخل اللبناني، كما وظفها في مرحلة لاحقة في الداخل السوري بزعم حماية مقام السيدة زينب أولاً، ثم الدفاع عن حكم الأسد في دمشق ثانياً.
صحيح أن غزة ليست بيروت من قريب أو بعيد، وأن هذه المدينة التي تمتلئ بالبؤس والبأس سوف تظل شوكة عالقة في حلق إسرائيل طوال الوقت، إلا أن من الصحيح أيضاً أن دولة الاحتلال العنصري باتت تخشى غزة الآن أكثر من أي موضع على الأرض، وتتمنى أن يبتلعها البحر، أو أن ينفذ مخزون صواريخها فجأة، الأمر الذي سوف يظل يخرج إسرائيل عن طورها كل نحو عامين أو أكثر، وقد يدفعها اليوم دفعاً إلى إعادة استنتاج “عقيدة الضاحية” في غزة مجدداً، لعلها بذلك تتمكن من استعادة ردعها المتآكل، والحفاظ على صورتها السابقة في مرآة ذاتها.